قراءة في كتاب
(السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة؛ دراسة نظرية تطبيقية)
تأليف: د/ سعد بن محمد الشهراني

تناوَل كتاب (السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة) جملةً من التفاسير التي تنتمي للمدرسة العقلية المعاصرة، وحاول استكشاف أثر السياق في تعاطيها للتفسير، ويحاول هذا المقال تسليطَ الضوء على هذا الكتاب، وبيان مقاربته للموضوع وكيفياتها، والموقف منها.

 الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تَبِعَه بإحسان إلى يوم الدِّين.

تمهيد:

  إنَّ من الآيات الدالّة على ربانيّة القرآن الكريم أنّ المفسِّر للقرآن مهما حصّل من العلوم، وحاز من الفضل والفطنة والذكاء، وطال به النّظر في كتاب الله =فإنه لا يستطيع أن يدّعِي أنّ تفسيره قد أحاط بعُشْر أعشار معانيه، كما أنّ الراغب في تفسيره لا يُفْزِعه أو يُقنِّطه الكثرةُ المتكاثرة من التفاسير المؤلَّفة لذلك، بل يقرأ أغلبها وهو يعلم يقينًا بأنَّ ما تركَتْه أكثر بكثير مما كتبَتْه، فيتقرَّبُ إلى الله سبحانه بخدمة هذا الكتاب الكريم.

وإنّ هذا المفسِّر حين يريد الإقدام على تفسيره، فإنه يراعي أصولًا تفسيرية وضعها العلماء لتنضبط المعاني المستنبطة بها، حتى يُعرف مراد الله من غيره، ولكي لا يتقوّل على الله أحدٌ.

ولقد كانت أصول التفسير المتعلّقة بالسياق، مما اعتنى به المفسّرون -قديمًا وحديثًا- أثناء تدبّرهم لكتاب الله؛ حيث «إنّ إغفال السياق في فهم القرآن وتفسيره من أكبر أسباب الخطأ في فهم القرآن، فهو يُفْضِي إلى أخطاء جسيمة في التفسير، ويؤدّي إلى انحراف واضح في معاني القرآن. وقد وقع كثيرون في هذه الأخطاء»[1]، وقد برز في الآونة الأخيرة عددٌ من التفاسير المعاصرة التي عُرِفَتْ بأنها تنتمي للتيار العقلي الحديث، وقد نجم عنها عددٌ من التفسيرات والرؤى التي أثارتْ جدلًا واسعًا كما هو معلوم، ومن ثم كان من المهم إخضاع هذه التفاسير للنّظر وتبيّن موقفها من أصول التفسير، لا سيما السياق القرآني لما له من أثر شديد في صحة التفسير وغلطه.

ومن هاهنا تبرز أهمية كتاب (السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة؛ دراسة نظرية تطبيقية) للدكتور/ سعد بن محمد بن سعد الشهراني[2]؛ إِذْ إنّ هذا الكتاب يتناول فيه المؤلّف بالتحليل جملة من التفاسير التي تنتمي للمدرسة العقلية المعاصرة، ويحاول استكشاف أثر السياق في تعاطي التفسير في هذه التفاسير. وفيما يأتي محاولة لتسليط الضوء على هذا الكتاب، وبيان لمقاربته للموضوع وكيفياتها والموقف منها.

 محتويات الكتاب:

تضمّن الكتاب مقدّمة وبابَيْن وخاتمة؛ حيث ذكر الباحث في المقدمة أهمية الموضوع وأسباب اختياره، وحدوده؛ وهي: تفسير محمد عبده، وتفسير المنار لمحمد رشيد رضا، وتفسير القرآن الكريم لمحمود شلتوت، وزهرة التفاسير لمحمد أبي زهرة، وتفسير المراغي، ثم ذكر المنهج الذي سيتبعه في بحثه والخطة المقترحة، وأخيرًا ختم مقدّمته بذِكْر الصعوبات التي اعترضته.

أمّا الباب الأول، فقد كان نظريًّا، بعنوان: (الدراسة النظريّة للسياق القرآنيمتضمِّنًا ثلاثة فصول؛ حيث كان الأول في تعريف السياق القرآني ونشأته، وبيان أهميته وعناية العلماء به. وكان الفصل الثاني في المدرسة العقلية الحديثة في التفسير؛ حيث تحدّث فيه عن مكانة العقل في الإسلام، وعن منهج تلك المدرسة في التفسير، مع التعريف بروّادها. ثم ختم الباب بفصل ثالث خصّصه للحديث عن السياق القرآني في تفسير المدرسة العقلية الحديثة؛ ذكر فيه مرادفات السياق عند هذه المدرسة وبعض أهم قواعده.

وأمّا الباب الثاني، فهو الشقّ التطبيقي، وكان بعنوان: (الدراسة التطبيقية للسياق القرآنيوقد تضمّن أربعة فصول؛ فجعل الباحثُ الأوّلَ في (أثر السياق في مسائل الاعتقاد)، درس فيه أثر السياق في إثبات صفات الله -عز وجل-، وفي عصمة الأنبياء، وفي الإيمان بالغيب، وفي الردّ على المخالفين. وجعل الفصل الثانيَ في (أثر السياق في كشف المعاني وبيان المراد)، متحدِّثًا فيه عن أثر السياق في تحديد المخاطب، وفي بيان معاني الألفاظ والتراكيب، وفي عود الضمير. وجعل الفصل الثالثَ في (أثر السياق في علوم القرآن)؛ حيث تطرّق إلى أثر السياق في أسباب النزول، وفي النَّسْخ، وفي المكي والمدني، وفي القصة القرآنية وعِلم المناسبات. ثم جعل الرابعَ في (أثر السياق في الأحكام الفقهية)؛ مبيِّنًا أثره في العبادات والمعاملات والأسرة.

هدف الكتاب:

لم ينص الباحثُ على هدف البحث، غير أنه يمكن القول إنّ غايته هي «إظهار الأُطُر العامة للسياق القرآني»[3]، ودراسة تطبيقاتِه لدى «مفسّري المدرسة العقلية الحديثة... لكثرة استشهادهم به لبيان مراد الله، وكشف معانيه، وترجيح المسائل الفقهية...»[4]؛ وذلك بتقديم «دراسة نقدية لما وقعوا فيه وتقويمه، وتعضيد ما وُفِّقوا إليه وتقريره»[5].

الإشكالات الأساسيّة للكتاب:

من خلال الهدف المذكور، ومعرفةِ أنّ الكتاب دراسة نظرية تطبيقية، يمكن القول إنّ للكتاب إشكالين، هما:

الإشكال الأول: ما الأُطر العامة للسياق القرآني؟ وما منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير؟

الإشكال الثاني: ما مقدار صواب أصحاب المدرسة العقلية الحديثة في توظيفهم للسياق؟ وكيف وظّفوه في تفسيرهم؟

* ما الأطر العامة للسياق القرآني؟ وما منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير؟

وللإجابة عن هذا الإشكال الذي كان مدار الدراسة النظرية، بحثَ الكاتبُ بدايةً مفهومَ (السياق القرآني)، فتوصّل إلى تعريفه بأنه: «ما يحيط بالنصّ من عوامل داخلية وخارجية، لها أثر في فهمه، من سابقٍ أو لاحق، أو حال المخاطِب والمخاطَب، والغرض الذي سِيق له، والجوّ الذي نزل فيه»[6]، مبيّنًا أنه نوعان: داخلي، وهو المستفاد من النصّ نفسه[7]؛ وخارجي، وهو الظروف الخارجة عن النصّ والمؤثّرة في فهمه وتحديد المعنى الصحيح؛ كأسباب النزول، والمكي والمدني...[8]. ثم بَيّن الباحثُ في الدراسة النظرية الأُطُرَ العامة الضابطة للأخذ بالسياق القرآني؛ حيث فصّل في خمس قواعد تُعَدُّ من أهم قواعد السياق[9]؛ كـ(إدخال الكلام في معنى ما قبله وما بعده أَوْلَى من الخروج به عن ذلكو(الأصل اتحاد مرجع الضمائر المتعاقبةو(الأصل عَوْد الضمير إلى أقرب مذكور)، ضاربًا لذلك أمثلة لكلّ قاعدة، مع النقل عن أئمة التفسير في بيان توظيفها وأهميتها.

كما بحثَ الكاتبُ عن مرادفات السياق عند المدرسة العقلية الحديثة، وهذا أمر مهمٌّ؛ لأن المفسِّر قد يعبِّر بعبارات أخرى تنوب عن السياق، فذكر منها اثني عشر (12) مرادفًا[10]؛ منها: (نَظْم الكلام)، و(نَسَق القرآن)، و(النسق الظاهر).

ثم بيَّن بتفصيل منهج هذه المدرسة في التفسير[11]؛ حيث ذكر أهم ما امتازت به؛ كـ(الوحدة الموضوعية في القرآن الكريمو(دعوتهم إلى الاجتهاد وذمّ التقليد مطلقًا)، وأن (الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي من مقاصد القرآن). كما تطرَّق الباحث إلى موقف المدرسة العقلية من التفسير بالمأثور، وذلك بدراسة موقفهم من تفسير القرآن بالسُّنّة وأقوال الصحابة والتابعين، وموقفهم من حَمَلة التفسير إلينا[12].

* ما مقدار صواب أصحاب المدرسة العقلية الحديثة في توظيفهم للسياق؟ وكيف وظّفوه في تفسيرهم؟

هذا الإشكال متعلّق بالشّق التطبيقي؛ وهو مستخلَصٌ من قول الباحث: «اعتنت المدرسة العقلية الحديثة بالسياق...، إلّا أنها غالَتْ فيه أحيانًا...، مما دعاني إلى دراسة نقديّة لما وقعوا فيه وتقويمه، وتعضيد ما وُفِّقوا إليه وتقريره»[13].

وقد خصَّص الباحثُ للإجابة عن الشّق الأول من الإشكالِ الدراسةَ التطبيقية كلَّها، وكان يسيطر عليه في دراسة الأمثلة، التي بلغ عددها ستين (60) مثالًا، وعدد النقول التي درسها أزيد من سبعين (70) نقلًا، وهذا الكمُّ كافٍ للتعرُّف على منهج المدرسة العقلية الحديثة في توظيفها للسياق؛ حيث توصّل الباحثُ إلى أنّ أصحاب هذه المدرسة جانبوا الصواب بتوظيفهم للسياق في أزيد من عشرين (20) مثالًا؛ وهو ما يفوق ثلث الأمثلة. وقد كان منهج الباحث في دراسته للآيات أنه يَذْكُر أقوال المفسّرين في الآية، ثم يبيّن موقف أصحاب المدرسة العقلية الحديثة؛ مبيّنًا أثر السياق في مواقفهم، ثم يدرس الآية بكلّ الأقوال فيها أو أهمها، وفي الأخير يختم دراسة كلّ آية بتصويب رأي أصحاب المدرسة العقلية في استنادهم إلى السياق في تفسيرهم، ومنها قوله: «ظهر لي أنّ ما ذهب إليه أصحاب المدرسة العقلية هو الصواب... وذلك لموافقته سياق الآيات...»[14]؛ أو بتخطئتهم، ومنها قوله: «من خلال ما سبق ظهر لي أنَّ أبا زهرة جانَبَ الصواب في حَمْل رؤية النار للعصاة يوم القيامة على المجاز لا الحقيقة، وذلك لورود الحديث الصحيح الصريح، ولأنّ حَمْل اللفظ على الحقيقة مقدَّم على المجاز»[15]. فالباحث كان دائمًا يدرس صحّة تلك الأقوال التفسيرية كما وعد، ولكنه أغفل -كما سنشير- دراسة الجانب الكَيْفِي لتوظيف هذه المدرسة للسياق في تفسيراتهم؛ إذ الدراسة النقدية تتجاوز بحث مقدار الصواب الذي حالف أصحاب هذه المدرسة خلال توظيفهم للسياق، إلى تحليلٍ يسبر ويمحّص كيفية الاستناد إلى السياق في تفسير هذه المدرسة؛ فحين يخالف الباحثُ أصحاب المدرسة في موقفهم لا نجده يتطرّق إلى تبيين ضعف الاستناد إلى السياق في الآية وموطن الضعف فيه.

أبرز مزايا الكتاب:

للكتاب ميزتان قويّتان، وهما:

- كثرة الآيات التي درسها الباحث، والتمثيل الشارح للقضايا المبثوثة في الكتاب؛ حيث كان مجموع الآيات التي درسها في الدراسة التطبيقية ستين (60) آية، وهو عددٌ كبيرٌ يعكس الجهد المبذول من لدن الباحث في هذا الشقّ التطبيقي، وهو ليس بالأمر السهل. كما أنّ الشق النظري في الدراسة لم يكن مجرَّدًا، بل كان الباحث حين يدرس قضيةً ما، يشرحها ويوضح مقصوده بالنقل عن الأئمة والمتخصّصين، ثم تعزيز هذا الشرح بالتمثيل على ذلك، إمّا بآيات من القرآن الكريم، أو من خلال الأحاديث والآثار؛ ومن أمثلته أنه حين تطرّق إلى قضية وجوب الأخذ بتفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحيح الصريح، شرح في البداية مُراد هذه القاعدة، ثم مثّل لها بالآيتين الأوليين من سورة الحج، ثم نقل قول الطبري الذي يشرح تلك القاعدة من خلال الآيتين السالفتين[16]، وهذا الأمر يسهّل على طلبة العلم غير المتخصّصين في الدراسات القرآنية -والمثقّفين على العموم- الاستفادةَ من هذا الكتاب، وهو أمرٌ ليس بالسهل أيضًا؛ لأنّ البسط وتقريب الأفكار والتمثيل لها يحتاج إلى مهارة وجهد كبيرَيْن، وهو الشيء الذي قام به الباحث أحسن قيام.

- الدراسة المفصّلة والبحث العميق للأقوال التفسيرية؛ فالباحث حين يدرس الأقوال التي يستند فيها أصحاب المدرسة العقلية إلى السياق =يطّلع على ما قاله المفسِّرون الآخرون فيها؛ حيث عادة ما كانت الإحالات في دراسة آية واحدة على تفاسير كثيرة[17]، حتى إنه نقل وأحال على تفسير هود بن محكم الهواري الإباضي[18]، وكان يقوده هذا البحث الواسع إلى الإتيان -أحيانًا- ببطلان قول المدرسة العقلية الحديثة في آيةٍ ما، باستدلال مفسِّر آخر يخالفهم بالسياق أيضًا؛ كقول ابن كثير في معرض الردود التي أوردها الباحث: «وظاهر السياق إكمال أفعالهما -أي: الحج والعمرة- بعد الشروع فيهما»[19]. على أنّ الباحث لم يكن يكتفِي فقط بالتفاسير في دراسته، بل كان يدرس الآيات في المصنفات التي اهتمّت بالموضوع الذي اشتملت عليه الآية، فآيات العقيدة التي اشتمل عليها الفصل الأول من الباب الثاني درسها أيضًا في مصنفات العقائد، وذلك حتى يتسنّى له الإلمام بالموضوع وتحرِّي الصواب في آياتها.

أهم الملاحظات:

* عدم العناية بالشقّ المفاهيمي:

لم يكن الباحثُ معتنيًا بالاصطلاح، ويدلّ على ذلك اقتصاره على مرجع وحيد للبحث في تعريف السياق الداخلي والخارجي[20]، كما أنه لمّا أراد تعريف السياق اكتفى بتعريفٍ من لدنه[21]، دون الاعتماد على أيّ مرجع، مع أنه ذكر عدّة مراجع حديثة لموضوع (السياق) في بحثه. وقد كانت بعض تعريفاته التي يأتي بها من لدنه غير موفّقة تمامَ التوفيق؛ إِذْ لا تخلو من ملاحظات عليها؛ ففي تعريفه لـ(السِّبَاق) قال: «ما سبق من الكلام، وتوقف فهم معنى ما بعده عليه»[22]، ويمكن أن يكون التعريف أخصر منه، وذلك بالقول: «الكلام الذي يتوقف فهم معنى ما بعده عليه»، فيكون التعريف المقترح سالمًا من الدَّوْر؛ لعدم ذِكْر كلمة (سبق) فيه. وعلى العموم، فإنّ الباحث لم يُولِ الدراسة المفاهيمية العناية اللازمة؛ حيث أهمل تعريف كلمة (العقل)، رغم أنها من مفردات عنوان الرسالة، فلم يأتِ بتعريف واحد له، مقتصرًا على الحديث عن مكانة العقل في الإسلام[23].

* غياب معالجة بعض التفاسير التي هي ضمن مجال الدراسة:

سبق الذِّكْر بأنّ عدد التفاسير التي اعتمدها الباحث في دراسته خمسة[24]، منها: (تفسير القرآن الكريم) لشلتوت، و(تفسير المراغي)، ولكن القارئ للكتاب يلاحظ الغياب التام لهما في الآيات التي يدرسها الباحث، وبعد الاستقراء تبيَّن أن النصيب الأوفر للدراسة كان لـ(تفسير المنار)؛ حيث كان عدد النقول التي درسها لمحمد رشيد رضا أو شيخه محمد عبده واحدًا وأربعين (41) نقلًا، ثم يليه تفسير (زهرة التفاسير)؛ حيث كانت النقول التي ذكرها عن أبي زهرة في الدراسة واحدًا وعشرين (21) نقلًا. في حين أنّ الباحث لم ينقل في شقّ الدراسة عن (تفسير المراغي) إلّا نقلًا واحدًا يتيمًا[25]. وأمّا محمود شلتوت، فإنّ الباحث لم ينقل عن تفسيره أيّ نقلٍ ليدرسه، وإنما اكتفى بنقل واحد أورده في معرض دراسة نقل لمحمد رضا[26].

ولكن الأغرب أنّ الباحث درس نقلَيْن لمحمود شلتوت من غير تفسيره، وكان مرجع النقلين هو كتاب (الإسلام عقيدة وشريعة)[27]، مع أنّ الباحث حدّد نطاق دراسته في تفسير شلتوت. والإعراضُ عن التفسير ذي المجلّدات الذي ألّفَه شلتوت لأجل معاني القرآن، والاستعاضةُ عنه بكتابٍ آخر يدرس موضوعًا محدّدًا =يثير التساؤل! ولهذا، فإنّ عنوان البحث ليس مطابقًا للدراسة، وأولى منه عنوان: (السياق القرآني وأثرُه في تفسير المنار وتفسير أبي زهرة).

* إدراج الحشو أحيانًا وبحثُ ما لا يخدم الموضوع محلّ الدراسة:

كان الباحث أحيانًا يسرد أقوالًا طويلة لصفحتين أو ثلاث[28]، أو ينقل أربعةَ نقولٍ أو ثلاثةً متتابعة لقضية معيّنة[29]، أو يستشهد بأربعة أحاديث أو ثلاثةٍ[30] بالتتابع أيضًا، في حين أنه كان يمكن الاكتفاء بنقل أو حديث واحد؛ مثل إيراد الباحث للردّ على مسألة عقدية ليس لها تعلّق بصميم البحث =ثلاثةَ أحاديث وأثرًا عن ابن عباس وثلاثةً من أقوال العلماء بالتتابع[31]! وهذا ما جعل الباحثُ أحيانًا يستشهد بأقوال غير مناسبة في الآيات المدروسة؛ مثل نقله نقلًا طويلًا لمحمد رضا -بعد أنْ سَرَدَ الأخير أقوال المفسِّرين في المراد بإتيان الله- يقول فيه: «وأنتَ ترى أنّ الوجه الأول في تفسير الآية هو المتبادر»[32]؛ إِذْ ليس في هذا النقل استدلال بالسياق، ولكن الباحث قال بعده: «ذهب محمد رضا إلى أن المراد بالإتيان في الآية إتيان أمره أو عذابه، وعلّل ذلك بأنه المتبادر من سياق الآيات»[33]، مع أن محمد رضا لم يذكر السياق، وإنما قال فقط المتبادر. وقريب من هذا استشهاد الباحث بنقل لأبي زهرة يقول فيه: «وما دام الظاهر لا دليل يناقضه من عقل أو نقل، فإنه يجب الأخذ به»[34]، فإن من المعروف أن الظّهور ليس هو السياق.

كما يُلاحَظ أنّ الباحث تطرّق إلى مسائل ودرس قضايا هامشية أو خارجة عن البحث، لا تخدم الرسالة؛ كنقله خلافًا -وأطال فيه- بين النحويين في ضم صاد {فَصُرْهُنَّ}[البقرة: 260]، وكسرها[35]، وتطرُّقِه إلى تضعيف الآثار تفصيلًا من جهتي المتن والسند في متن الكتاب؛ كتضعيف روايةٍ لعائشة وأخرى لمعاوية -رضي الله عنهما-[36]، وقد يزيد أحيانًا فينقل أقوال العلماء في متن الأثر وسنده[37]، أو يكتفي بتخريج الأحاديث في متن الكتاب والحُكْمِ عليها بالصحة والضّعف[38]، وفي بعض الأحيان يذكر أشياء لا داعي لإيرادها، كقوله عن أبي زهرة: «قلّما مَرَّ ذِكْر معاوية في التفسير إلّا لمزه»[39].

* إهمال التعرّض إلى السياق في ثلثي النتائج المُدْرَجة عقب دراسة كلّ آية:

ذكَر الباحثُ -كما سبق- أنَّ دراسته للأمثلة التي اعتمد فيها مفسرو المدرسة العقلية الحديثة على السياق نقديّةٌ، ولكن هذا لم يكن في كلّ الآيات، ولا أدلّ على ذلك من غياب التطرّق إلى السياق في النتيجة التي يختم بها الباحثُ أيّ مثال يدرسه، فإنّ الملاحَظ أنه لم يتعرّض في كثير من النتائج إلى السياق أو إلى أثره في الآية؛ فمن بين ستّين (60) آية درسها، لم يذكر الباحث شيئًا يتعلّق بالسياق في تسع وثلاثين (39) نتيجة؛ أي: ما يوازي -تقريبًا- ثلثي الأمثلة؛ كقوله في إحدى النتائج: «ظهر لي أنّ ما ذهب إليه محمد رضا هو القول الذي تطمئن إليه النفس؛ وهو الأقرب للصواب. والله أعلم»[40]. بل أحيانًا يكون الباحث قد درس آية فيها قولان مختلفان، وكلاهما من المدرسة العقلية، ويستندان إلى السياق في التفسير، بيد أنّ الباحث لا يتطرّق إلى السياق البتة في النتيجة[41].

خاتمة:

هذه الدراسة بذل فيها الكاتبُ جهدًا كبيرًا، وتطرّقت إلى موضوع شائك في تفاسير معاصرة منتشرة بين الناس، وهي مرجع لكي يأخذ القارئون نظرة عن السياق القرآني، وللاطلاعِ على منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير؛ لتحرِّي الصواب في الآيات التي كَثُرَ الاختلاف حولها؛ لأنّ الباحث أجاد في البحث عن المعاني الصحيحة لتلك الآيات. وقد فتحتْ هذه الدراسةُ البابَ لمن أراد أن يبيّن توظيف السياق عند باقي أصحاب المدرسة العقلية الحديثة، وهم كثيرون، خصوصًا أن تفاسير هذه المدرسة هي المنتشرة بين المثقّفين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 

 

[1] من مقدّمة المشرف على كرسي القرآن الكريم وعلومه لكتاب: (السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة)، سعد بن محمد بن سعد الشهراني، نشر: كرسي القرآن الكريم وعلومه، ط:1، 1436هـ، ص3.

[2] والكتاب في الأصل هو: أطروحة دكتوراه، وعدد صفحاته: تسع عشرة وخمسمائة (519) صفحة، ودار النشر التي طبعته: كرسي القرآن الكريم وعلومه، جامعة الملك سعود؛ الرياض. وسنة نشره: 1436هـ، ورقم الطبعة: الأولى. وأمّا المؤلِّف فهو أستاذ التفسير المشارك بكلية الشريعة بجامعة الملك خالد (أبها - السعودية)، حاصل على دكتوراه في التفسير وعلوم القرآن، من كلية الدعوة وأصول الدِّين، بجامعة أم القرى - مكة المكرمة، ببحث موضوعه: (السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة؛ دراسة نظرية تطبيقية)، سنة: 1427هـ.

[3] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص7.

[4] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص6، بتصرف يسير جدًّا.

[5] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص7.

[6] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص29.

[7] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص25.

[8] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص26- 27.

[9] انظر: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص109 وما بعدها.

[10] انظر: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص103 وما بعدها.

[11] انظر: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص65 وما بعدها.

[12] انظر: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص93 وما بعدها.

[13] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص7.

[14] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص436.

[15] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص208.

[16] انظر: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص109 وما بعدها.

[17] كإحالته على ثلاثة وعشرين (23) تفسيرًا في الإحالة رقم: (1) (ص:164)؛ وعلى عشرين (20) تفسيرًا في الإحالة رقم: (1) (ص:222)؛ من (السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة).

[18] كما في الإحالة رقم: (1) (ص:204)، السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة.

[19] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص441.

[20] انظر: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص25 وما بعدها.

[21] انظر: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص29.

[22] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص25.

[23] انظر: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص57 وما بعدها.

[24] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص8.

[25] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص266.

[26] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص404- 405.

[27] انظر: إحالة رقم (1) (ص:467)؛ وإحالة رقم (1) (ص:490) من (السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة).

[28] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص44- 46، 66- 67، 75- 76، 139- 140، 193- 194...

[29] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص22، 71، 186- 187، 256- 257، 305- 306، 393، 414- 415، 441، 470...

[30] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص35، 149، 240، 247- 248؛ 317- 318، 433- 434، 463- 464...

[31] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص211- 212.

[32] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص137.

[33] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص137.

[34] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص284.

[35] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص222- 223.

[36] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص287.

[37] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص338 وما بعدها.

[38] انظر: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص344 وما بعدها؛ وص348 وما بعدها.

[39] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص97.

[40] السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص173.

[41] انظر: السياق القرآني وأثره في تفسير المدرسة العقلية الحديثة، ص270.

الكاتب

عبد الإله العلوشي

حاصل على ماجستير الدراسات القرآنية من جامعة محمد الأول بالمغرب.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))