{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}
تفسير الآية الرابعة من سورة التحريم عند الفراهي وإصلاحي

المترجم : مصطفى هندي
في هذه المقالة يقدِّم مستنصر مير تفسيرًا مختلفًا للآية الرابعة من سورة التحريم، انطلاقًا من تحديدٍ لكلمةِ {صَغَتْ} مخالفٍ بصورة عامة للمعهود في التقليد التفسيري، ويعتمد في هذا على عمل الفراهي وإصلاحي، وخصوصًا على تحليلهما اللغوي للمفردة ورؤيتيهما للترابط السياقي للآيات ودور بعض الأدوات المتعلقة بتركيب الجُمل فيه.

{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}

تفسير الآية الرابعة من سورة التحريم عند الفراهي وإصلاحي[1][2]

  خاطب القرآنُ اثنتين من زوجات النبيّ محمدٍ في هذه الآية: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}[3].

إذا قرأنا الآية في سياقها مع الآيات الثلاث الأولى من السورة، فسنرى أن هذه الآيات تشير إلى ما تسميه باربرا ستواسر[4] «أزمة» حدثت في منزل النبي محمد حوالي سنة 7 أو 8 هـ، وهو تاريخ نزول السورة[5]. الآية الأولى فيها عتاب للنبي محمد؛ لأنه حرّم على نفسه ما أحلّه اللهُ له، وتقول الآية الثالثة أنّ إحدى زوجاته لم تحفظ ما أسَرَّ به إليها، فأظهره اللهُ تعالى على ما جرى، وتلا ذلك الآيةُ الرابعة المذكورة أعلاه.

قدّم المفسّرون تفسيرَيْن لِمَا حرّمه النبيُّ محمد على نفسه[6]. ولغرضنا البحثي في هذه الورقة، ليس من المهم تحديد أيّهما صحيح -أو أكثر معقولية[7]- أو تحديد السرّ الذي عَهِدَ به النبيُّ محمد إلى إحدى زوجاته[8]؛ ما يهمنا هنا بالمقام الأوّل هو الجزء الافتتاحي من الآية الرابعة: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}، وسنبدأ بفحص النصف الثاني من الجملة.

يفسّر معظمُ المفسّرين كلمة {صَغَتْ} في الآية على أنها تعني «الانحراف والميل عن شيء»؛ فيُروى عن ابن عباس أنه فسّر {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}: بـ«زاغت قلوبكما»، و«أثِمَت قلوبكما»[9]. وقيل: إنّ «زاغت قلوبكما» هي قراءة الصحابي عبد الله بن مسعود[10]، فقد أورد الزمخشري قراءة ابن مسعود وفسّر الآية بـ«فقد وُجِد منكما ما يوجب التوبة، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حبِّ ما يحبّه وكراهة ما يكرهه»[11]، كما فسّر الرازي الآية بـ«عَدَلَت ومالَت عن الحقّ»[12]، وكذلك القرطبي: «زاغت ومالت عن الحقّ»[13]، وأبو حيان التوحيدي: «مالت عن الحقّ»[14].

والخلاصة أن المفسرين على أن كلمة {صَغَتْ} في الآية تعني: (مالَت عن)، والجملة: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} تعني: إنْ وجَبَ عليكُنّ (أي: زوجتي النبي محمد) أنْ تتوبا إلى الله؛ فذلك لأنّ قلوبكما قد انحرفت عن الطريق الحقّ، وتحتاج إلى التصحيح والتوبة.

-2-

يرفض العالِمُ المسلم الهندي عبدُ الحميد الفراهي (1862-1930)[15] الفهمَ التقليدي لكلمة: {صَغَتْ} في الآية على أنها تعني (الزيغ أو الميل عن الحقّ)، وقدّم على رأيه حجة ذات شقّين؛ أولًا: كلمة (صغو) -كما أكّد عليها- تعني في المقام الأول (الميل إلى)، وليس (الميل عن). في كتابه: (مفردات القرآن) ناقَش الفراهي معاني الكلمة، وقد وسّع معالجته للكلمة في تفسيره لسورة التحريم[16]، وفيما يأتي نصّ ما قاله في المفردات:

«في جميع الألسنة، ولا سيما في لغة العرب، ألفاظ خاصّة لأفراد خاصة، تحت معنی کلي. والذهول عن هذه الخصوصيات مُبْعِد عن فهمِ اللسان، مثلًا: (الميل) معنی کلّي. ثم تحته: الزيغ، والجور، والارعواء، والحيادة، والتنحِّي، والانحراف: كلّها للميل عن الشيء. والفيء، والتوبة، والالتفات، والصغو: كلّها للميل إلى الشيء؛ فمَن خبط بينهما ضلّ وأضلّ.

فلا يخفى على العالِم بلسان العرب أن قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} معناه: أنابَت قلوبكما، ومالَت إلى الله ورسوله؛ فإنّ(الصَغْوَ) هو الميل إلى الشيء، لا عن الشيء. ومنه صاغية الرجل: لأتباعه، وصغوه معك: أي ميله، وأصغيت إلى فلان: أي مِلْت بسمعك نحوه. ومنه الحديث: (يُنفخ في الصور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا)، أي: أمال صفحة عنقه إليه. وقالوا: الصبي أعلم بمُصْغَى خَدِّه: أي هو أعلم إلى من يلجأ أو حيث ينفعه. ومنه صغت الشمس والنجوم: أي مالَت إلى الأرض. وفي حديث الهرة: (كان يُصْغِي لها الإناء)، أي: يميله ليسهل عليها الشُّرب. ومن ذلك الصغو لجوف الإناء لما يجتمع فيه المشروب.

أنشد ابن برِّي شاهدًا على الإصغاء بالسمع لشاعر:

ترى السفيه به عن كلّ مكرمة .. زيغ وفيه إلى التسفيه إصغاء

وقال ذو الرُّمة يصف الناقة:

تصغي إذا شدّها بالكور جانحة .. حتى إذا ما استوى في غرزها تثب

وقال الأعشى في صغو العين يصف ناقة:

تری عينها صغواء في جنب مؤقها .. تراقب كفي والقطيع المحرما

وقال النمر بن تولب في إصغاء الإناء بمعنى الإفراغ:

وإن ابن أخت القوم مصغى إناؤه .. إذا لم يزاحم خاله بأب جلد» اهـ[17].

ثانيًا: يقول الفراهي إنه في الجُمل الشرطية (مثل تلك الواردة في آية التحريم) الجملة بعد (قَدْ) تذكر أمرًا ليسهل به ذكر ما بعد (إِنْ)، كأنّ تقدير الكلام: إنه إن يكن كذا وكذا فلا بأس أو لا إشكال أو الأمر هيّن، فإنه قد وقع كذا وكذا. وفي تفسيره لسورة التحريم، استشهد الفراهي بثلاث آيات هي: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}[الأنفال: 19]، و{فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}[آل عمران: 184]، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}[الأنعام: 89]؛ وذلك للتدليل على أنّ هذا الترتيب بين (جملة قَدْ) و(جملة إِنْ) هو للتسهيل[18].

تشير آية الأنفال إلى غزوة بدر، وأنها كانت استجابةً من الله لدعاء قريش بأن ينصر الفريق الذي معه الحقّ، فنزلت الآية: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19]، أي: إذا كان طلبكم هو علامة على الحقّ لا لَبْس فيها وحكم نهائي من الله، فإن ذلك قد أتاكم واضحًا جليًّا في انتصار المسلمين الأخير في معركة بدر.

أمّا آية آل عمران: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ}[آل عمران: 184]، أي: إنْ كذّبَك هؤلاء الناسُ، فهذا ليس بمستغرب؛ لأن الأنبياء السابقين أيضًا كذّبهم قومهم. وفي آية الأنعام: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}[الأنعام: 89]، أي: إذا كان هؤلاء يرفضون ويكفرون بهذه الرسالة اليوم، فهذا ليس بمستغرَب ولا يدعو للقلق؛ لأن مثل هذا الموقف تجاه الرسالة الإلهية قد فعله مَنْ قبلَهم -وكما كان الحال سابقًا- فسيُوكِل اللهُ هذه الرسالة إلى أولئك الذين يقدرونها وينصرونها.

يبدو الفراهي واقفًا على أساس قوي للغاية عندما يجادل بأن (صغو) تدلّ في المقام الأول على (الميل إلى) بدلًا من (الميل عن)، وأن هذا هو معناها في الآية.

إنّ التعبيرات التوضيحية والأبيات الشعرية التي يستشهد بها مأخوذة من لسان العرب، ولكن هناك تحت الجَذْر (ص-غ-و) في لسان العرب العديد من العبارات والتعبيرات الأخرى، ويبدو أنها تؤكّد وجهة نظر الفراهي؛ كما أن رأيه القائل بأن العلاقة بين (جملة إِنْ) و(جملة قَدْ) في الجملة الشرطية هي علاقة تسهيل =يبدو أيضًا أن له سندًا قويًّا في الاستخدام العربي الكلاسيكي. كان من الممكن أن يستشهد من القرآن أيضًا بـ{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}[يوسف 77]، أو {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]، وفيما يأتي عدد قليل من أبيات الشعر الجاهلي الكثيرة التي يمكن الاستشهاد بها في دعم رأي الفراهي[19].

يقول عنترة بن شداد موضحًا لماذا سبّه اثنان من أعدائه:

إِنْ يَفْعَلا فَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَاهُمَـا .. جَزَرَ السِّباعِ وَكُلِّ نَسْرٍ قَشْعَـمِ[20]

وقال أعشى باهلة:

فإن جزعنا فقد هدَّت مصيبتنا .. وإن صبرنا فإنَّا معشرٌ صُبُرُ[21]

وقال المُتلمِّس الضبعي:

فَإِن يَكُ عَنّا في حُبَيبٍ تَثاقُلٌ .. فَقد كانَ فينا مِقنَبٌ ما يُعَرِّسُ[22]

وقال معاوية بن مالك:

فإِنْ تَكُ نَبْلُها طاشَتْ ونَبْلِي .. فقد نَرْمِي بها حِقَبًا صِيَابًا[23]

قال عدي بن زيد:

وإنْ أَظلِم فقد عاقبتموني .. وإن أُظلَم فذلك من نصيبي[24]

-3-

يمكننا الآن أن نسأل السؤال الحاسم: ما الذي سيترتّب على تفسير الآية كما فسّرها الفراهي؟

الجواب ذو شقّين؛ أولًا: يترتب على ذلك تحديد المعنى الصحيح لكلمة معيّنة وفهم دلالة بنية نحويّة معينة بشكلٍ كاملٍ؛ فإذا كان الفراهي محقًّا في القول بأن (صَغَوَ) تعني «مال إلى» وليس «مال عن»، عندئذٍ ستصبح ترجمة الآية التي تستخدم المعنى الثاني مُشكِلة وقابلة للنقاش، وانظر على سبيل المثال الترجمات الآتية (سبقت الإحالة إلى ترجمة آرثر أربري)[25]:

جورج سيل[26]: «إنْ تَعُودَا إلى الله بالتوبة؛ لأن قلوبكما قد انحرفت، فبها ونِعمت»[27].

جيه. م. رودويل[28]: «إذا تاب كلاكما إلى الله نادمًا؛ فذلك لأن قلوبكما قد ضلّت»[29].

محمد أسد: «فلتعودا إلى الله بالتوبة؛ لأن قلوبكما قد انحرفت [عن الطريق الصحيح]»[30].

كينيث كريج[31]: «إذا كنتما -كلتا الزوجتين المعنيتين- تائبتين لله؛ لأنّ كلتيكما متورط، فذلك خير لكما»[32].

ماكس هينينج[33]: «إذا تبتم إلى الله؛ لأن قلوبكم انحرفت، فذلك حسن»[34].

رودي بارت[35]: «إذا كنتما -النساء- (حسب التفاسير هما حفصة وعائشة، زوجتا النبي محمد) تتجهان إلى الله بالتوبة فذلك خير؛ لأن قلوبكما قد انحرفت عن الطريق الصحيح»[36].

لا يعني ذلك أنه لم يفسّر أيّ عالم -مسلم أو غربي- {صَغَتْ} في الآية على أنها تعني «الميل إلى»؛ فقد نقل القرطبي قولًا ولم ينسبه لأحد، حيث قال في تفسير الآية: «فقد مالت قلوبكما إلى التوبة»، لكن لا يبدو أنه يعوِّل عليه كثيرًا في هذا التفسير؛ لأنه صدَّره بـ«قيل» وتركه كذلك[37]. وفي تفسير الجلالين فُسِّرت {صَغَتْ} بأنها «مالت إلى تحريم مارية، أي: سَرّكما ذلك مع كراهة النبي -صلى الله عليه وسلم- له، وذلك ذنب»[38]. ولكن في حين أن تفسير الجلالين يصحِّح أن معنى {صَغَتْ} هو «مالت إلى»، فإنّ التفسير الكامل للآية -الذي يتضمن تحريم النبي لمارية- من الصعب أن يدعمه نصّ الآية.

يبدو أن ريتشارد بيل يرفض أيضًا تفسير {صَغَتْ} في الآية بمعنى «مالت عن»؛ لأنه ترجم الآية بـ«إن تتوبا إلى الله، فإن قلوبكما تميل إلى الطريق الصحيح»[39]. ولكن، دون وجود توضيح لهذا الإجمال، فإنه من الصعب أن نقول بدقة ما معنى «فإن قلوبكما تميل إلى الطريق الصحيح»، هل يعني أنها مالت إلى الطريق الصحيح فتابت (وفي هذه الحالة يصبح الميل إلى الطريق الصحيح سببًا للتوبة)، أم أنها بالتوبة تميل إلى الطريق الصحيح (وعليه يصبح الميل إلى الطريق الصحيح نتيجةً للتوبة)[40]؟

الكثير من الغموض يكتنف كلمة: {صَغَتْ}؛ أمّا فيما يتعلّق ببنية الجملة، فإذا كان الفراهي محقًّا في التأكيد على أن (جملة قَدْ) في الجملة الشرطية هي «تسهيل» لجملة فعل الشرط، فيجب تمييز هذا الاستخدام بعناية عن الأشكال الأخرى للجملة الشرطية. في فصل (إِنْ) الشرطية في كتاب (مغني اللبيب)، استشهد ابن هشام بـ{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}[التوبة 40]؛ والتي فيها (جملة إِنْ) هي فعل الشرط، و(جملة قَدْ) هي جواب الشرط، لكنه لا يميز بين هذه الصيغة وبين الأشكال الأخرى من الجمل الشرطية[41]. وبالمثل، لا يوجد في كتاب ويليام رايت لقواعد اللغة العربية تمييزٌ بين هذا الشكل والأشكال الأخرى من الجمل الشرطية[42]. إن قبول رأي الفراهي يشير إلى أن أفضل موقع لـ(جملة قَدْ) في جملة شرطية كالتي في آية التحريم هو أن تقع جواب شرط، فليس هناك حاجة تقتضي أن تكون (جملة قَدْ) جملة اعتراضية، وجواب الشرط محذوفًا.

ثانيًا: يتعلق الأمر بتفسير الآية بشكلٍ صحيحٍ في سياقها: إذا قُبلت قراءة الفراهي للآية، فإنّ الآية تشير إلى (الموافقة/الإقرار) بدلًا من (إدانة/عتاب) زوجتي النبي محمد؛ لأنها ستُقرأ على النحو الآتي: تميل قلوبكما بالفعل إلى التوبة؛ لذلك إذا كنتُنّ ستُعَبِّرْنَ بالكلمات عن شعور التوبة الموجود بالفعل في قلوبكما، فإنّ هذا طبيعي ومنطقيّ جدًّا بالنسبة لكُنّ[43]. هذا الفهم للآية يرسم صورة مختلفة تمامًا لبيت النبيّ عن تلك الموجودة في أكثر التفاسير، فـ«الأزمة» في بيته ستظهر هنا بشكلٍ مختلف؛ وعند هذه النقطة ننتقل إلى أمين أحسن إصلاحي.

كتَب إصلاحي[44] -أشهر تلاميذ الفراهي- تفسيرًا كاملًا للقرآن في ضوء مبادئ الفراهي التفسيرية. في تفسيره لسورة التحريم، أكملَ إصلاحيّ ما بدأه الفراهي في تفسيره، وأبرزَ العديد من الآثار المترتبة عليه. في ما يأتي سنترجم عدّة مقاطع من تفسير إصلاحي لنسمح له بالتحدّث عن نفسه؛ ولكن قبل أن نقدّم تفسيره للآية الرابعة من سورة التحريم، من الضروري مراجعة بعض النقاط الأخرى التي أثارها في إشارة إلى الحادثة التي تناولتها الآيات:

تتحدّث الآية الثالثة من السورة -كما تقدّم- عن سِرٍّ قاله النبيّ محمد لإحدى زوجاته، والذي أذاعته لزوجةٍ أخرى، وأخبر النبيُّ محمد الزوجةَ الأولى أنه قد علم بما فعلته، وعندما سألته عن مُخْبِره، أجاب أن الله هو الذي نبّأه بالخبر.

1. كما لاحظ إصلاحي، لا تفصح الآية 3 عن السِّر، وليس من الضروري معرفته للتحقيق في الأمر أيضًا؛ لأنه ليس حاسمًا في تفسير الآية. في الواقع، ما تنتقده الآية هو إذاعة الأسرار، وتتبُّع هذا السِّر سيكون تحديًا ومخالفة لأمر الآية. «ما هو واضح تمامًا من الآية، هو أن النبي اعتاد أن تكون زوجاته مقربات منه ومحلًّا لثقته وأسراره، وهو دليل على أنه كان يثق تمامًا بقدرتهن على حفظ الأسرار وبصيرتهن وفطنتهن»[45]. علاوة على ذلك، إذا كانت الزوجتان اللتان ألمحت إليهما الآية 4 -كما تشير التفاسير- هما عائشة وحفصة، فإن هذا يعني فقط «أنّ هاتين السيدتين من أمهات المؤمنين (سيدات بالأردية للمثنى والجمع) تربطهما علاقات وُدٍّ قوية لدرجة أنه لم تكن هناك أسرار بينهما؛ وهذا يتناقض مع القصص التي سرَد فيها الرواة المتهورون حوادث التنافس والتباغض المتبادل»[46]، ومن المهم أيضًا ملاحظة أنّ الزوجة التي كشفت السر لزوجة أخرى لم تفعل ذلك بأيّ نية شريرة؛ بل على العكس، لقد فعلت ذلك عن طريق الخطأ معتقدةً أنه بما أن الزوجة الأخرى هي أيضًا محبوبة وموثوقة من قِبل زوجها، فلن يكون هناك ضرر في إخبارها بهذه المسألة الخاصّة، وأن هذا قد يعمل في الواقع على تعزيز الحبّ والثقة المتبادلة بينهما؛ لقد كان هذا التفكير ناتجًا فقط عن حُسن نية، ولم تخالطه أيّ نية سيئة. ولكن هناك أيضًا حقيقة أخرى قد تكشف لنا عن جانب مهم آخر، وهي أن إذاعة الأسرار تتعارض مع السمة التي قال الله ورسوله أنها مرغوبة في الزوجات، وعليه فيجب أن تتحلَّى زوجات النبيّ بأسمى صورة منها؛ لأنهنّ قدوة للنساء في المجتمع كلّه»[47].

2. يشدّد إصلاحي على أنّ «الموقف الذي أبدته الزوجتان لم يكن ناتجًا عن مشاعر الكراهية أو الغضب، بل -كما أوضحنا سابقًا- عن مشاعر الحب والثقة، أو (التدلُّل) بعبارة أخرى. لكن القرآن تناول هذا الموقف بحزمٍ؛ لأن الفكرة المركزية للسورة هي أنه حتى في حالة الحبّ يجب أن تُطاع أوامر الله، وحتى زوجات النبيّ يجب عليهن في جميع الأحوال النظر إلى النبيّ -ليس فقط على أنه زوج- بل أيضًا -أو بالأحرى قبل كلّ شيء- على أنه نبيّ الله»[48].

3. إنّ خطأ إفشاء السّر كان من إحدى الزوجتين، فلماذا يعاتب القرآن الزوجتين؟

يردُّ إصلاحي: «عندما عبّر النبي عن استيائه من إحدى الزوجات لإذاعة السر، لا بد أن الزوجة الأخرى اعتقدت أن الاستياء ربما كان بسبب إذاعة السر لها؛ لا بد أنها اعتقدت أن الأمر قد أذيع لها ولغيرها، فلماذا العتاب؟ الجواب: لأن العتاب قد يوحي بأنها كانت يُنظر إليها، ليس كفرد من داخل المنزل، ولكن كغريبة، وعلى الرغم من أن هذا الشعور الخاصّ بها كان قائمًا على سوء فهمٍ كامل، إلا أنه من غير المحتمل أن ينشأ سوء الفهم كهذا لدرجة أن يؤدي الحب والثقة إلى التنافس»[49].

على أيّ حال، آذت انتقادات الرسول عِزّة نفس الزوجتين اللتين ابتعدتا عنه إلى حدٍّ ما. كتب إصلاحي (في الظروف العادية): «لا يوجد شيء استثنائي في هذا -فمثل هذه الحوادث تحدث عادة بين الأزواج والزوجات- ولكن لما كان الواقعون في هذه الحالة بالذات هم النبي -صلى الله عليه وسلم- وزوجاته، فإنّ الله تعالى قد لفت نظرهن بحزمٍ إلى هذا الأمر؛ حتى يتضح تمامًا لزوجات الرسول أنه في مسائل الدّين لا أحد لديه الحقّ في إظهار عِزة نفس غير لائقة. وهكذا، إذا ارتكبت الزوجات خطأً، فيجب أن يَكُنَّ أول من يصحّح موقفه؛ لأن هذا فقط هو السلوك المناسب لهن واللازم المنطقي لإيمانهن. وإذا اخترن -من جهة أخرى- العناد وتحدّيْن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فيجب عليهن أن يتذكّرن أن النبيّ لا يعتمد عليهن في سلوانه وراحته، بل هن اللاتي يعتمدن عليه»[50].

4. يمكننا الآن إلقاء نظرة على تفسير إصلاحي للآية 4. بالنسبة إلى إصلاحي، فشلت العديد من التفاسير التقليدية في مراعاة الجانب النفسي للموقف كما هو مشار إليه في الآية: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}.

بعد أن استشهد إصلاحي بنقد الفراهي المزدوج لهذا التفسير (معنى صغو، والعلاقة بين جملة "إِنْ" وجملة "قَدْ" في الجمل الشرطية [انظر أعلاه])، كتب: «الخطأ الثالث في هذا التفسير هو أنه يعلن أن زوجات النبي -دون أيّ دليل- مذنباتٌ بزيغ وانحراف القلب، في حين أنه واضح جدًّا من طبيعة الموقف -كما أوضحنا أعلاه في ضوء النصّ القرآني- أنّ سلوكهنّ خالٍ من أيّ نية سيئة؛ مهما كان ما حدث فقد كان نتيجة الحبّ المتبادل والثقة والإخلاص. أخبر الرسول سِرًّا لإحدى زوجاته، والتي أفصحت عنه لأخرى، بدافع من الحب والمودّة، فأبلغ اللهُ نبيَّه بما وقع، ووجّه النبي اللوم إلى الزوجة التي ارتكبت الخطأ، لكنها لم تـرَ سببًا وجيهًا لهذا اللوم، معتقدةً أنها إذا كشفَت عن سِرّ زوجها لزوجةٍ أخرى -يحبها زوجها ويثق بها- فإنّ هذا الخطأ لم يكن عظيمًا لدرجة تستوجب توجيه اللوم. لذلك، عندما بَدَا النبيُّ (جافًّا) إلى حدٍّ ما تجاهها، أظهرت هي الأخرى -انطلاقًا من الثقة التي كانت تتمتع بها في حبّ زوجها وتعبيرًا عن التدلُّل- موقفًا مماثلًا تجاهه، وهو ما أظهرته الزوجة الثانية التي كُشف لها عن السر؛ والأخيرة -كما أشرنا أعلاه- لا بد أنها شعرت بشيء من التجاهل وأنها تُلام على شيء أُخبِرت به. إنّ ظهور عزّة النفس وتقدير الذات من سيدات ينتمين إلى عائلات نبيلة ليس مفاجئًا على الإطلاق»[51].

يضيف إصلاحي: «هنا يجب على المرء أن يضع في اعتباره حقيقة نفسية معيّنة عن البشر: عندما يكون التباعد أو الجفاف مدفوعًا بالحب والثقة، فإنّ هذا التباعد ليس إلا قشرة ظاهرة تخفي تحتها رغبة عميقة في التصالح والانسجام؛ وهذا ما حدث هنا. الظاهر أن الزوجتين تباعدتا، لكنهما في نفس الوقت تمنّتا من كلّ قلبهما رفع هذه القشرة من القطيعة مع أول وأبسط تعبير عن الودّ من النبيّ. ومع ذلك، لم يَـتوانَ النبيُّ لأنه -كما سبق شرحه- كان من المفترض أن يكون قد علَّم أفراد عائلته أنه حتى في الحب يجب أن يقدِّموا أوامر الله ورسوله على كلّ شيء آخر. إذن -بالضرورة- لم يكن على الزوجات سوى التخلّي عن موقفهن من التمنُّع، ورابط الحب لا يزال قويًّا مع ذلك. على الرغم من أنهن كُنّ ينتظِرْنَ شيئًا ما لرفع التباعد، إلا أنهن كنّ متردّدات في اتخاذ الخطوة الأولى. وإلى هذا الصراع النفسي الداخلي للزوجات أشارت الكلمات القرآنية: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} مثل هذه الإشارة الجميلة؛ لكن من المؤسف أنّ مفسرينا فشلوا في فهم ذلك، وأخذوا ميل القلب المحبّ على أنه -والله يغفر لنا هذا القول- انحراف القلب!»[52].

-4-

يقدِّم إصلاحي والفراهي تفسيرًا مختلفًا للآية الرابعة من سورة التحريم -أو بالأحرى الآيات الافتتاحية من السورة- عمّا هو سائد في كتب التفسير التقليدية. عند تفسير القرآن، يعطي المؤلفان أولوية للنصّ القرآني، ويقرآنه في ضوء الاستخدام العربي الكلاسيكي مع الاعتماد المكثّف على الشعر الجاهلي بغرض الوصول إلى حقيقة الاستخدام. كما يتّخذون موقفًا نقديًّا تجاه الروايات التفسيرية، ويرفضونها إذا وجد أنها تعارض نصّ وسياق القرآن. إذا كان النصّ القرآني يصوّر حالة تاريخية تنطوي على تفاعل البشر مع بعضهم بعضًا، فإنهم يحاولون إعادة بناء الموقف، مع مراعاة بُعده النفسي.

تدعونا هذه العلاقة بين هذَيْن المفسِّرَيْن إلى مقارنتها مع العلاقة بين اثنين من المفسِّرِين المصريِّين في العصر الحديث هما محمد عبده ورشيد رضا؛ ولكِنْ هناك اختلاف كبير. فعلى عكس رضا، يمكن لإصلاحي أن يدّعِي أنه كتَب تفسيرًا للقرآن -على الرغم من التزامه بمبادئ التفسير التي أقرّها الفراهي- إلا أنه عملٌ أصيل للغاية يظهر فيه مجهوده وشخصيته؛ وحتى في الحالات القليلة التي كتب فيها الفراهي تفسيرًا كاملًا لسورة معيّنة، فإنّ إصلاحي -مع قبوله بجوهر هذا التفسير- فإنه يقدِّم فهمَه الخاصّ للسورة ويقرأ النصّ القرآني بطرق جديدة، ويستخلص منه معانيَ جديدة، ويتجلَّى ذلك في تفسيره لسورة التحريم.

 

 

[1] هذه الترجمة هي لمادة: "fa-qad ṣaghat qulūbukumā: The Interpretation of Qur'an 66:4 by Farāhī and Iṣlāḥī"، المنشورة في: "Journal of Qur'anic Studies"، عام 1999.

[2] مترجم هذه المقالة: مصطفى هندي، مترجم وكاتب، له عدد من الأعمال المنشورة.

[3] .(A. J. Arberry, The Koran Interpreted (London, Allen and Unwin, 1955
ترجمة المواد القرآنية المذكورة في هذه الورقة هي للمؤلّف، ما لم يذكر خلاف ذلك.

[4] باربرا ريجينا فراير ستواسر، مستشرقة ألمانية، ولدت في ألمانيا حيث تلقّت تعليمها الأوّلي، ثم حصلت على الشهادة الجامعية من جامعة أنقرة في دراسة اللغة التركية العثمانية والحديثة واللغة الفارسية والعربية والتصوّف، حصلت على الماجستير من جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، في تاريخ الشرق الأوسط وحضارته، حصلت على الدكتوراه من جامعة مونستر Munster بألمانيا في الدراسات الإسلامية. تولّت العديد من المناصب، منها: أستاذة مساعدة بقسم اللغة العربية في جامعة جورج تاون بواشنطن العاصمة. ثم عُيّنت مديرة لمركز الدراسات العربية المعاصرة بالجامعة نفسها في الفترة من 1993 حتى 2012. لها العديد من المؤلفات، منها: (النساء في القرآن وفي الحديث وفي التفسير)، و(التطور الديني والسياسي، بعض الأفكار حول ابن خلدون وميكيافيللي)، وعدد كبير من البحوث حول الدراسات الإسلامية، وبخاصّة فيما يتعلّق بالمرأة في الإسلام قديمًا وحديثًا. عضو مؤسّس في المجلس الأمريكي لجمعيات الدراسات الإسلامية، وعضو في الجمعية الاستشراقية الأمريكية، وعضو الرابطة الأمريكية لمعلّمي اللغة العربية. (المترجم).

[5] باربرا فراير ستواسر، المرأة في القرآن: التقاليد والتفسير (نيويورك وأكسفورد، مطبعة جامعة أكسفورد، 1994)، ص99.

[6] طبقًا لأحد التفسيرات، واستنادًا إلى رواية أم المؤمنين عائشة، كان النبيُّ محمد -الذي كان يحب الأطعمة الحلوة- يقيم عند زوجته زينب بنت جحش لساعات طويلة، حيث قدّمت له عسلًا. بعد أن شعرْنَ بالغيرة، خطط كلٌّ من عائشة وحفصة أن تخبر كلٌّ منهما النبيَّ محمدًا في زيارته القادمة أنها تجد منه رائحة مغافير، وهو صمغ حلو له رائحة كريهة تظلّ في العسل حسب الشجر الذي امتصت النحلة رحيقه. (في حديث آخر، من رواية عروة عن عائشة في البخاري ومسلم، حفصة تحلّ محلّ زينب، فهي مَن قدَّم العسل للنبيّ محمد، في حين سَوْدة وصفية هما -بناء على اقتراح من عائشة وباتفاق معها- خطّطْنَ أنْ تخبرن النبيّ أنها تجد منه رائحة مغافير) وفقًا للتفسير الآخر، قرّر النبي محمد في إحدى المرات ألّا يجامع سريّته مارية القبطية. صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب (لِمَ تحرِّم ما أحلَّ الله لك)، وكتاب الأيمان والنذور، باب (إذا حرَّم طعامه...). صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب (وجوب الكفّارة على مَن حرَّم امرأته ولم ينوِ الطلاق). وسنن أبي داود، كتاب الأشربة، بابٌ في شراب العسل. رواية مارية استشهد بها بالتفصيل الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان في تفسير القرآن، (30 مجلدًا في 12 جزءًا، ط. بولاق، 1329هـ؛ بيروت، طبع)، (28/ 100-102)، وبعدها روايتان موجزتان للغاية عن حادثة شراب العسل، (18: 102). أما عن المغافير (ويسمى أيضًا مغاثير) ورائحته، انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة (غفر)؛ وابن كثير، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل، تفسير القرآن العظيم، الطبعة الرابعة (7 مجلدات، بيروت، دار الأندلس، 1983م) (7/ 52-53).

[7] يشير الطبري إلى أنه لا يهمّ أيّ من الحادثتين هي سبب نزول الآية، فقد تكون تلك التي تتعلّق بمارية أو شربة العسل، أو بعض الحوادث المختلفة تمامًا. يقول الطبري: ما يهمّ هو أن النبي محمدًا حرّم على نفسه ما أحلّه الله له، ولذلك عوتب (جامع البيان، 28/ 102). استشهد الزمخشري بكِلتا الروايتين في شكلٍ مكثّف، ووضع تفسيرًا مشابهًا لِما قاله الطبري، حيث قال: «فمعناه: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} من ملْكِ اليمين أو العسل» (الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (4 مجلدات، بيروت، دار المعرفة) (4/ 113). أورد ابن أبي حاتم حادثة العسل كسبب لنزول الآية (تفسير ابن كثير، 7/ 51-52). نقل الآلوسي عن العديد من المفسرين الآخرين عدّة روايات في المعنى نفسه؛ الآلوسي، شهاب الدين أبو الثناء السيد محمود، روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني (30 جزءًا في 15 مجلدًا، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1390/ 1970؛ ملتان، باكستان) (28/ 147).

[8] التفسيران المذكوران أعلاه للآيات من 1 إلى 4 يوحيان أن النبيّ أخبر إحدى زوجاته أنه إمّا: لن يتناول العسل مرة أخرى، وطلب منها عدم الإفصاح عن قراره لأيّ أحد، أو أنه لن يجامع مارية القبطية. (انظر: الطبري، جامع البيان، 28/ 101؛ ابن كثير، التفسير 7/ 52، الزمخشري، الكشاف، 4/ 113). وبحسب الكاتب الباكستاني أمين أحسن إصلاحي، فإن الآيات 1 و2 تشير إلى حادثة معيّنة، بينما الآيات 3 و4 تتناول حادثة أخرى، والحادثتان لا علاقة بينهما. وحجته هي أن الحرف (إذ) في بداية الآية 3، يفصل بين هذه الآيات والآيات السابقة؛ لأن {وَإِذْ} تُستخدم عادةً للإشارة إلى حادثٍ منفصل ومختلف. تدبر القرآن، 8 مجلدات، لاهور، دار الإشاعات الإسلامية/ مؤسسة فاران، 1967-1980)، (7/ 460). إنّ استخدام {وَإِذْ} كما أوضحه إصلاحي موجود بوضوح في القرآن؛ على سبيل المثال في سورة البقرة آية 49 وما يليها، حيث يتم تذكير بني إسرائيل بالنعم التي منَّ اللهُ بها عليهم: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ... وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْر... وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى... وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب...}. إذا قبلت وجهة نظر إصلاحي، فإن السرّ المشار إليه في الآية 4 لا يمكن تفسيره بالإشارة إلى الحادثة المتعلقة بشُرب العسل (أو تلك التي تشير إلى قصة مارية القبطية)، وسوف ينظر إلى التفسيرات كأنها تخلط بين الحادثتين.

[9] الطبري، جامع البيان، (28/ 104). وفي التفسير المنسوب لابن عباس، تُفَسَّر {صَغَتْ} بـ«مالت عن الحقّ». تنوير المقباس من تفسير ابن عباس (بيروت، دار الكتب العلمية، 1987)، ص477.

[10] جامع البيان، (28/ 104).

[11] الزمخشري، الكشاف، (4/ 115). مع تغيير طفيف للغاية، ينقل البيضاوي كلام الزمخشري بالحرف (حيث وضع المخالصة عن مخالفة في الاقتباس)، البيضاوي، نصير الدين أبو الخير عبد الله بن عمر، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، الطبعة الثانية (مجلدان، القاهرة، مصطفى البابي الحلبي وأولاده، 1388/ 1968)، (2/ 468). الآلوسي، روح المعاني (28/ 152)، أيضًا ينقل عبارة الزمخشري بالحرف تقريبًا: (مخالصة عن المخالفة الأولى).

[12] الرازي، فخر الدين محمد بن عمر، التفسير الكبير، (32 جزءًا، 16 مجلدًا، القاهرة، 1353-82/ 1934-62؛ عن طبعة طهران) (30/ 44). يلاحظ الرازي أن التحول في الضمائر -من مخاطبة الثلاثة في الآية الثالثة إلى الاثنين في الآية الرابعة- ليكون آكد في العتاب: «خطاب لعائشة وحفصة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما».

[13] القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، 20 جزءًا، 10 مجلدات، بيروت، دار إحياء التراث العربي، (1965-7)، (18/ 188).

[14] أبو حيان، محمد بن يوسف، البحر المحيط (11 مجلدًا، بيروت، دار الفكر، 1413/ 1992)، (10/ 210).

[15] عبد الحميد بن عبد الكريم بن قربان قنبر بن تاج علي، حميد الدين أبو أحمد الأنصاري الفراهي. وُلد -رحمه الله- يوم الأربعاء، سادس جمادى الآخرة سنة 1280هـ في قرية (فَرِيها) من قرى مديرية (أعظم كره) في الإقليم الشمالي بالهند، بعد أن أتم حفظ القرآن اشتغل بتعلّم العربية، فنهل من علومها وآدابها الكثير والكثير؛ ما جعله يقرض الشعر على طريقة الجاهليين، ويسبك الرسائل على منوالهم، فضلًا عن إحاطته بالفارسية والعبرية. تعرّف كذلك على اللغة الإنجليزية في ريعان شبابه، ونهل من الفلسفة الحديثة الكثير، ونال شهادة الليسانس من جامعة (الله آباد). اشتغل الفراهي بالتدريس والتعليم فترة طويلة من حياته؛ حيث بدأ بمدرسة الإسلام بكراتشي عاصمة السند، فدرّس فيها سنين، وكتَب وألّف عددًا من المصنّفات، ثم انتقل إلى جامعة عليكرة الإسلامية. استقال الفراهي من أعمال التدريس -بعدما أشرف على تحقيق فكرته بتأسيس جامعة أُرديّة تقوم بتدريس العلوم الدينية باللغة العربية- وانقطع لتدبّر القرآن والنظر في علومه؛ حيث عكف عليه وانشغل بالتصنيف فيه، إضافة لإشرافه على مدرسة الإصلاح الديني التي أسّسها قريبًا من قريته، وظلّ -رحمه الله- بقية حياته على هذه الحال حتى وافته المنية في التاسع عشر من جمادى الآخرة سنة 1349هـ = الحادي عشر من نوفمبر سنة 1930م. (قسم الترجمات).

[16] مفردات القرآن (سارة مير، أكزامجاره، مطابع الإصلاح 1358هـ) ص50-51. الترجمة العربية لتفسير الفراهي للسورة ليست متوفرة لي؛ ولذا فقد استخدمت ترجمته الأردية من قِبَل تلميذه أمين أحسن إصلاحي، مجموع تفسير الفراهي (لاهور، مركز أنجمان خادم القرآن، 1393/ 1973). يتكوّن المجموع من تفسير الفراهي لأربع عشرة سورة من القرآن. لمزيد من التفاصيل عن الأعمال التفسيرية للفراهي وإصلاحي، انظر: مستنصر مير، الترابط الموضوعي في القرآن؛ دراسة لمفهوم النظم في القرآن الكريم (انديانابوليس، منشورات أمريكان ترست، 1986).

قلتُ (المترجم): مفردات القرآن للفراهي طُبعت في دار الغرب الإسلامي بعناية محمد أجمل أيوب، ويوافق هذا النقل الطويل الصفحات من ص293 إلى ص295 نسخة أجمل أيوب.

[17] الفراهي، المفردات، ص50-51.

[18] البيت الشعري الذي استشهد به الفراهي هو للشاعر الجاهلي مرداس بن حسين. لست متأكدًا من نصّ البيت كما هو مذكور في الترجمة الأردية، ولم أتمكن من العثور عليه في المصادر المتاحة لي. سأذكر عوضًا عنه عدة أبيات أخرى من الشعر الجاهلي ذات صلة بمناقشتنا.

[19] جميع هذه الأبيات مأخوذة من موسوعة الشعر العربي، اختيار وتحرير وشرح: مطاع صفدي وإيليا حاوي، إشراف: خليل حاوي، ومراجعة: أحمد قدامة، الجزء الأول، الشعر الجاهلي، الأجزاء 1-4 (بيروت، شركة خياط للكتب والنشر، 1974).

[20] المرجع السابق، (1/ 536)، البيت رقم 75.

[21] المرجع السابق، (3/ 287)، البيت رقم 28.

[22] المرجع السابق، (2/ 163)، البيت رقم 13.

[23] المرجع السابق، (3/ 432)، البيت رقم 3.

[24] المرجع السابق، (2/ 458)، البيت رقم 14. يتوسّل عديّ إلى الأمير النعمان بن منذر ليطلق سراحه من السجن.

[25] آرثر جون آربري (1905-1969)، مستشرق إنجليزي، ولد في بورتسموث، وقد حصل على منحة في دراسة الكلاسيكيات، فدرس اليونانية واللاتينية في جامعة كامبريدج، وحصل على البكالوريوس من كلية برمبوك، توجّه لدراسة اللغات الشرقية بتوجيه من أستاذه منسن، ودرس العربية على يد ألن نيكلسون، وكانت زمالة آربري بالقاهرة، وقد عيّن رئيسًا لقسم الآداب بالجامعة المصرية «جامعة القاهرة». اهتماماته الرئيسة تركّزت في التصوّف الإسلامي وفي الأدب، ففي 1935، نشر كتاب «المواقف والمخاطبات» للنِّفَّري، وترجمه للإنجليزية، كما عمل على فهرسة المخطوطات العربية والفارسية، وترجم عددًا من أعمال الشاعر والمتصوف والفيلسوف الهندي محمد إقبال، وتعتبر المهمّة الأبرز التي قام بها أستاذ اللغات الشرقية ورئيس كرسي اللغة العربية بمدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية وأستاذ كرسي توماس آدمز في جامعة كمبريدج =هي ترجمته للقرآن إلى اللغة الإنجليزية، فقد ابتدأ مشروعه بترجمة آيات مختارة من القرآن في الخمسينيات، ثم أصدر ترجمته المفسرة عام 1955، بعنوان: «the Koran interpreted» في مجلدين. (قسم الترجمات).

[26] جورج سيل (1697-1736)، مستشرق إنجليزي، اشتهر بترجمته للقرآن، والتي تعدّ أول ترجمة إنجليزية لمعاني القرآن، وأهديت للورد جون كارتريت، وصدرت عام 1734، ويعاد طبعها باستمرار إلى الآن. (قسم الترجمات).

[27] George Sale, The Koran, Translated into English from the Original Arabic London and New York, Frederick Warne and Co., n.d. يَعتبِر سيل في هذه الحالة أن جواب الشرط محذوف، وعليه فجملة: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} جملة اعتراضية، وقد فعل الشيءَ نفسَه رودويل وكراج وهيننج وبارت (انظر ما يأتي). وفي تفسير القرطبي، أحكام القرآن، (28/188-189) فجملة: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ليست جواب الشرط؛ لأن الصغو جاء بصيغة الماضي، وعليه فإنّ جواب الشرط محذوف للعلم به، وتقديره: إن تتوبا إلى الله، فقد كان ذلك خيرًا لكما (وهذا جواب الشرط)؛ لأن قلوبكما قد انحرفت.

[28] جون ميدوز رودويل، (1808-1900)، قسّ إنجليزي، درس في كامبرديج، وهو صديق دراسة لتشارلز داروين، اختصّ في دراسة الإسلام، وترأّس جامعة سان بطرس بلندن، له ترجمة للقرآن صدرت عام 1861، وهذه الترجمة هي ترجمة وترتيب زمني للقرآن، بالإضافة لحواشٍ وتعليقات. (قسم الترجمات).

[29] J. M. Rodwell, The Koran, Translated from the Arabic, Introduction by G. Margoliouth ـ(London and New York, Everyman, 1977). تقول الملاحظة المرفقة مع الآية: «الله الكريم سيعفو عنكم».

[30] محمد أسد، رسالة القرآن (جبرالتار، دار الأندلس، 1980).

[31] كينيث كريج، (1913-2012)، مستشرق أمريكي، له عدد كبير من الكتب حول القرآن والإسلام، منها:
The Qurʼan and the West, 2006.
القرآن والغرب.
Muhammad in the Qur'an: The Task and the Text, 2001
محمد في القرآن؛ المهمة والنصّ.
والكتاب المشار إليه في المقال هو ترجمة لمختارات من القرآن، وصدر عام 1988. (قسم الترجمات).

[32] Kenneth Cragg, Readings in the Qur'an: Selected and Translated with an Introductory Essay ـ(London, Collins, 1988ـ), p. 243.

[33] ماكس هيننج، (1861-1927)، مستشرق ألماني، له ترجمة للقرآن صدرت عام 1901، كما ترجم عددًا من الكتب التراثية العربية مثل قصص ألف ليلة وليلة. (قسم الترجمات).

[34] Max Henning, Der Koran, aus dem arabischen übersetzt ـ(Stuttgart, Reclam, 1960).

[35] رودي بارت، مستشرق ألماني، ولد عام 1901، وتوفي عام 1981، ومن أشهر أعماله ترجمته للقرآن، والتي عمل فيها سنين طويلة، وأخرجها تباعًا منذ 1963 وإلى عام 1966، وهي ترجمة وشرح أو تعليق فيلولوجي، كما أن له كتابًا مهمًّا كثيرًا ما يشير إليه المختصون في الاستشراق الألماني، وهو كتاب: «الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية، المستشرقون الألمان منذ تيودور نولدكه»، وقد تُرجم للعربية، حيث ترجمه: مصطفى ماهر، وصدر عام 2011 عن المركز القومي للترجمة والهيئة العامة المصرية للكتاب، وهذا الكتاب لا يعرض فحسب صورة لتطور الدراسات العربية والإسلامية في ألمانيا على يد أحد أهم المتخصصين، لكنه كذلك يتناول مسألة التلقّي العربي لكتب المستشرقين، ويوضح رأيه فيها. (قسم الترجمات).

[36] Rudi Paret, Der Koran, übersetzung, 3rd edn ـ(Berlin, Kohlhammer, 1983).
كما هو واضح، يكسر بارت الترابط النحوي بين جملة: {إِنْ} وجملة: {فَقَدْ}، معتبرًا أنّ جواب الشرط محذوف، وجملة: {فَقَدْ} استئناف لكلام جديد.

[37] القرطبي، أحكام القرآن، (28/ 188).

[38] في حاشية البيضاوي، أنوار التنزيل، (2/ 486). كذلك في تفسير الجلالين اعتبر جواب الشرط محذوفًا تقديره: (تُقبَلا، أي: إن تتوبا إلى الله= تُقبَلَا) وجملة: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} اعتراضية.

[39] Richard Bell, The Qur'an: Translated, with a Critical Re-arrangement of the Surahs ـ(Edinburgh, T. & T. Clark, 1937; 1960 reprintـ), 2:589

[40] ماجد فخري: «إن تبتما إلى الله؛ عندها ستكون قلوبكما قد مالت بالتأكيد». The Qur'an, A Modern English Version (Reading, Garnet Publishing, 1997.

[41] جمال الدين بن هشام الأنصاري، مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق: مازن المبارك، الطبعة الثانية، (جزآن في مجلد واحد، دار الفكر، القاهرة، 1969) (1/ 17).

[42]  W. Wright, A Grammar of the Arabic Language, revised by W. Robertson Smith and M. J. de Goeje, 3rd edn ـ(Cambridge University Press), 2:38 (S 17 , (c), Rem. A).

[43] ربما نشير هنا إلى ترجمة محمد حميد الله للآية، وهي كالآتي -بالفرنسية-: «إذا تبتما كلتاكما إلى الله؛ فذلك لأن قلوبكما بالتأكيد قد انحرفت»، مقتبس من Rudi Paret, Der Koran, Kommentar und Konkordanz, 2nd edn ـ(Stuttgart, Kohlhammer, 1981) (وفيما يتعلق بتفسير الآية الرابعة من سورة التحريم، يقارن بارت ترجمة حميد الله بترجمة بيل، ولكن -على عكس الأخير- يؤكد على العلاقة السببية بين جواب الشرط وفعل الشرط). حميد الله، من الهند أصلًا، وهو على دراية بعمل الفراهي، وإنني أشكّ جدًّا في تأثّره بالفراهي في ترجمته للآية، والذي يبدو أنه في ترجمته الصادرة عام 1959 قد تأثّر بحمزة السيد بو بكير الذي كانت ترجمته: «إذا تبتما كلتاكما؛ فذلك لأن قلوبكم قد حادت» Le Coran, traductionfrancaise nouvelle et commentaire ـ(Paris, Fayard / Denoél,1972).

[44] أمين أحسن إصلاحي (1904-1997) أحد أبرز تلاميذ الإمام الفراهي، وأحد أهم رواد مدرسته الإصلاحية، وأشهر كتبه تفسيره الكبير «تدبر القرآن» المكتوب في تسعة مجلدات، والذي استغرق في كتابته اثنين وعشرين عامًا، وسار فيه على منهج شيخه في تتبع «نظام القرآن»، وله كتب أخرى، مثل: «حقيقة التوحيد»، «حقيقة الشرك»، «تزكية النفس»، وكلّ كتبه بالأردية، وهو مترجم كتب الفراهي للغة الأردية. (قسم الترجمات).

[45] Islåhi, Tadabbur-i Qur'än, 7:460-2.

[46] المرجع السابق، ص461.

[47] المرجع السابق، ص461-462.

[48] المرجع السابق.

[49] المرجع السابق، ص463.

[50] المرجع السابق.

[51] المرجع السابق، ص466.

[52] المرجع السابق، ص466-467.

المؤلف

مستنصر مير - Mustansir Mir

أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة يونغستاون بالولايات المتحدة الأمريكية، تتركّز اهتماماته في دراسات القرآن والتفسير المعاصر.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))