مبادئ التعلّم في القرآن الكريم

من جُملة هداية القرآن الكريم ما اعتنى به من التوجيه إلى مبادئ التعلّم، وهذه المقالة تعرض هذه المبادئ من خلال آيات القرآن الكريم، متمثلةً في إثارة الدوافع للتعلّم، والتكرار، وإثارة الانتباه، والمشاركة الفعالة، وتوزيع التعلم، والتدرج في تعديل السلوك.

مبادئ التعلّم في القرآن الكريم[1]

  نزل القرآن الكريم أساسًا من أجل هداية الإنسان وتوجيهه وتعليمه؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يتضمّن القرآن الكريم كثيرًا من المعلومات عن الإنسان؛ ففي القرآن الكريم معلومات في خَلْقِ الإنسان وطبيعة تكوينه من مادة وروح، وما ينشأ عن ذلك من صراعٍ نفسي، وعن الدوافع المختلفة الفسيولوجية والنفسية التي توجّه سلوكه، وعن الانفعالات المختلفة التي يشعر بها والتي تؤثّر في حياته، وعن وسائل اكتساب الإنسان للمعرفة سواءٌ عن طريق الإدراك الحِسِّي أو العقلي أو عن طريق الإلهام والرؤيا الصادقة.

وفي القرآن الكريم أيضًا معلومات عن الإنسان ومراحله، وعن التعلّم ومبادئه، وعن الشخصية وأنماطها وصفاتها المختلفة، وعن تقويم الإنسان وعلاجه النفسي وغير ذلك من المعلومات عن الحياة النفسية للإنسان، ولن نستطيع في هذا المقال المحدّد أن نتناول جميع ما جاء في القرآن الكريم من معلومات عن الحياة النفسية للإنسان، فهذا أمر يتجاوز كثيرًا العدد المحدّد لنا من صفحات في هذا المقال؛ ولذلك فسوف نكتفي في هذا المقال بتناول مبادئ التعلّم التي وردت في القرآن الكريم، أمّا المعلومات الأخرى التي وردت في القرآن الكريم عن الحياة النفسية للإنسان فقد تناولها الباحث بشيء من التفصيل في مكان آخر[2].

ونحن إذا درسنا المنهج الذي اتّبعه القرآن الكريم في دعوته لعقيدة التوحيد، وفي تربيته للمؤمنين، وغرس المبادئ والقيم الإسلامية في نفوسهم، لاستطعنا أن نستخلص من هذا المنهج بعض المبادئ العامة لعملية التعلّم التي استخدمها القرآن الكريم في تغييره لسلوك المؤمنين، وفي تعليمهم العقائد والقيم الإسلامية.

وسنرى أنّ هذه المبادئ التي استخدمها القرآن الكريم في التربية الروحية للمؤمنين لم يكشف علماء النفس عن أهميتها في التعلم إلا أخيرًا في أوائل القرن العشرين، وسنحاول فيما يأتي أن نستعرض مبادئ التعلم في القرآن الكريم.

الدافع:

للدافع أهمية كبيرة في التعلم، فإذا توفّر الدافع القوي للحصول على هدف معيّن توفرت الظروف المناسبة لكي يقوم الإنسان ببذل الجهد الضروري لتعلّم الطرق الصحيحة للوصول إلى هذا الهدف، وإذا جابه الإنسان مشكلة وشعر بحاجة إلى حلّ هذه المشكلة، فإنه يقوم في العادة بكثير من المحاولات لحلّ هذه المشكلة، حتى ينتهي به الأمر إلى تعلّم الحلّ الصحيح لهذه المشكلة، وقد بيّنَت كثيرٌ من الدراسات التجريبية التي أُجريت حديثًا على الحيوان والإنسان أهميةَ الدافع في حدوث التعلم، وقد استخدم القرآن الكريم في تربيته الروحية للمسلمين أساليب مختلفة في إثارة دوافعهم إلى العلم، فاستخدم الترغيب والترهيب، واستخدم القصص للتشويق، كما استعان بالأحداث الجارية المهمّة التي تُثير دوافع الناس وانفعالاتهم، وتجعلهم مهيئين لتعلّم العِبرة من هذه الأحداث.

أ- إثارة الدوافع بالترغيب والترهيب:

حينما يكون لدى الإنسان دافع قوي للحصول على هدفٍ ما، فإنّ الحصول على هذا الهدف الذي يُشبِع دافعه يعتبر ثوابًا أو مكافأة تُسبِّب له الشعور باللذة أو السرور والرضا، والفشل في الحصول على هذا الهدف يُعتبر نوعًا من العقاب الذي يُسبِّب له الشعور بالألم أو الضيق والكدر. والإنسان -وكذلك الحيوان- يميل بطبيعته إلى ما يسبِّب له اللذة، ويتجنب ما يسبِّب له الألم؛ ولذلك كان الإنسان ميّالًا بطبيعته إلى تعلم الاستجابات أو الأفعال التي تؤدي إلى الحصول على الثواب، وإلى تجنّب الاستجابات أو الأفعال التي تؤدي إلى الفشل أو العقاب، وقد أثبتت التجارب الكثيرة التي أجراها علماء النفس المحدَثون هذه الحقيقة.

وقد اهتم القرآن الكريم في دعوته إلى الإيمان بعقيدة التوحيد بإثارة دوافع الناس بترغيبهم في الثواب الذي سيحظى به المؤمنون في نعيم الجنة، وبترهيبهم من العقاب أو العذاب الذي سيلحق بالكافرين في نار جهنم. وآيات الترغيب التي تصف نعيم الجنة تبعث في المسلمين الأمل في الحصول على هذا النعيم، وتدفعهم إلى التمسّك بالتقوى والإخلاص في أداء العبادات والعمل الصالح، والجهاد في سبيل الله، وعمل ما يُرضِي اللهَ ورسولَه، آملين أن يكونوا من أهل الجنة، والآيات التي تصف عذاب جهنم تبعث فيهم الرهبة من هذا العذاب الأليم الذي ينتظر الكافرين والمنافقين والعاصين لأوامر الله تعالى، ويدفعهم ذلك إلى الابتعاد عن ارتكاب الذنوب والمعاصي وكلّ ما يغضب الله ورسوله، آملين أن ينجيهم الله من عذاب جهنم، وهكذا كان المسلمون متأثّرِين بدافعَيْن قويَّيْن؛ أحدهما وهو دافع الرجاء في الثواب، يدفعهم إلى القيام بالعبادات والتكاليف وكلّ ما يأمرهم به الشرع، والآخر وهو دافع الخوف من العقاب يدفعهم إلى تجنّب القيام بالذنوب والمعاصي وكلّ ما ينهاهم عنه الشرع، وشعور الإنسان بهذين الدافعين القويّين المتكاملين والمتّفقين في الهدف يجعله في حالة استعداد تام وتهيؤ كامل للطاعة التامة لله والرسول، ولتلبية كلّ ما يُطلب منه من واجبات ومسؤوليات، ولتعلّم كلّ ما يوجهه إليه الإسلام من نظام جديد للحياة، وطريقة جديدة في التفكير والسلوك، ولتجنّب كلّ ما ينهى عنه الله -سبحانه وتعالى- ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.

ويلاحظ أنّ القرآن الكريم لا يعتمد فقط من أجلِ إثارة الدافع لقبول الإسلام على تخويف الناس وترهيبهم من العذاب الأليم في نار جهنم، وإنما يعتمد أيضًا في نفس الوقت على ترغيبهم في الاستمتاع بنعيم الجنة؛ وذلك لأنّ استخدام الترهيب وحده، أو الترغيب وحده قد لا يكون مفيدًا الفائدة المرجوة في تعديل السلوك وتوجيهه، فاستخدام الترهيب وحده قد يؤدِّي إلى طغيان الرهبة في النفس فتيأس من رحمة الله، واستخدام الترغيب وحده قد يؤدي إلى استيلاء الأمل في رحمة الله على النفس مما قد يوكلها إلى الدّعة والتهاون والغفلة فتتمنى على الله ما ليس لها[3]. وفي هذا المعنى قال النبيّ -صلوات الله وسلامه عليه-: (ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، إنّ قومًا ألهتهم أمانيّ المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله، وكذبوا، ولو أحسنوا الظنّ بالله لأحسنوا العمل له)[4].

ولذلك فإن القرآن الكريم لا يعتمد على الترهيب فقط، أو الترغيب فقط، وإنما يعتمد على مزيج منهما: الخوف من عذاب الله، والرجاء في رحمته وثوابه، وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك في وصف أتقيائه من الأنبياء وعباده الصالحين، فقال عنهم:

﴿...إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90]، ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [السجدة: 16].

وهذا المزيج من الخوف والرجاء كفيل بإثارة الدافع القوي لدى المسلمين لتعلّم ما جاء به الإسلام من نظام جديد في الحياة، وما تضمّنه ذلك من أساليب جديدة في التفكير والسلوك، ومن أمثلة آيات الترغيب والترهيب التي تَذكر النعيم الذي سيناله المؤمنون، والعذاب الذي سيلحق بالكافرين في الحياة الآخرة:

﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 81- 82].

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [المائدة: 9- 10].

﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ [الحج: 50- 51].

﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [الحج: 56- 57].

﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾[الروم: 14- 16].

ولا تقتصر آيات الترغيب والترهيب في القرآن الكريم على ذكر النعيم الذي سيلقاه المؤمنون، والعذاب الذي سيلحق بالكافرين في الحياة الآخرة فقط، بل إنه يذكر أيضًا ما يناله المؤمنون من خير، وما يلحق بالكافرين من ألمٍ وعذابٍ في الحياة الدنيا أيضًا. ومن أمثلة الآيات التي تذكر ما يناله المؤمنون من خير في الحياة الدنيا:

﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 52].

﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10- 12].

﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [الرعد: 31].

﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾[هود: 94].

ب- إثارة الدافع بالقصص:

والقصص من الوسائل المهمّة التي استخدمها القرآن الكريم أيضًا لإثارة الدافع للتعلّم؛ وذلك لما تثيره من التشويق لدى المستمعين، ولما تستدعيه من الانتباه إلى تتبّع الأحداث التي تُروى في القصة، وكان القرآن الكريم يبث في ثنايا القصص ما يريد أن يبلغه للناس من أغراض دينية متعلقة بالعقائد، أو من عِبر وحِكم يريد أن يعلمها لهم.

﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ...﴾ [يوسف: 111].

وإنّ ما يمتاز به القصص القرآني من جمال فنّي يجعل ورود الأغراض الدينية إلى النفس أيسر وتأثيرها في وجدانهم أعمق[5].

ويلاحظ في بعض قصص القرآن الكريم أنه يبدأ أولًا بذِكْر ملخص القصة، ثم يعرض بعد ذلك تفصيلات القصة من بدايتها إلى نهايتها، كما هو واضح مثلًا في قصة (أصحاب الكهف)، وذكر ملخّص القصة قبل سرد تفاصيلها إنما يؤدي إلى تشويق المستمعين وإثارة انتباههم لتتبع تفاصيل القصة[6].

ويلاحظ في بعض القصص الأخرى أنها تبدأ أولًا بذِكْر عاقبة القصة ومغزاها، ثم تأتي بعد ذلك تفصيلات القصة كما هو ملاحظ في قصة موسى -عليه السلام- الواردة في سورة القصص، وذِكر مغزى القصة أولًا يؤدّي أيضًا إلى إثارة تشويق المستمعين وانتباههم لتتبع وقائع القصة لمعرفة كيف تحققت هذه الغاية[7].

جـ- الاستعانة بالأحداث المهمّة:

ومن العوامل التي تساعد على إثارة الدوافع والانتباه وقوعُ بعض الأحداث أو المشكلات المهمّة التي تهزّ وجدان الناس وتثير اهتمامهم وتشغل بالهم، ويكون الناس عادةً تحتَ تأثير هذه الأحداث المهمّة التي تمر بهم في حالةِ تهيؤ واستعداد لتعلّم العِبرة المتضمّنة في هذه الأحداث، وقد استعان القرآن الكريم بالأحداث المهمّة التي كانت تمرّ بالمسلمين لتعليمهم بعض العِبر المفيدة لهم في حياتهم، ومن الطبيعي أن يكون المسلمون في أوقات وقوع هذه الأحداث المثيرة لوجدانهم أكثر استعدادًا، وأكثر قبولًا لتعلّم العِبرة واستيعابها[8].

ومن أمثلة ذلك: ما حدث في غزوة حنين حين أُعجِب المسلمون بكثرتهم وقوّتهم واطمأنوا إلى أنهم سينتصرون على الكفار، ونَسُوا أن النصر بمشيئة الله وحده، فأراد الله تعالى أن يعلِّم المسلمين أنّ الكثرة لا تؤدي بالضرورة إلى النصر، وإنما ينصر الله من يشاء من عباده الذين يغمر الإيمان والتقوى قلوبهم حتى ولو كانوا قلة[9].

﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 25- 26].

التكرار:

إنّ تكرار عرض آراء وأفكار معيّنة على الناس يؤدّي عادةً إلى استقرار هذه الآراء والأفكار وتثبيتها في أذهان الناس، وقد بيّنت دراسات علماء النفس المحدَثين أهمية التكرار في عملية التعلّم، وقد فطنت المؤسّسات التجارية والصناعية إلى أهمية التكرار في تثبيت الفكرة في أذهان الناس، فقاموا بإنفاق الأموال الطائلة على الإعلانات التجارية التي تقوم بتكرار عرض أفكار معينة على الناس بهدف التأثير في اتجاهاتهم لترويج سلعهم التجارية.

ونحن نجد في القرآن الكريم تكرارًا لبعض الحقائق المتعلّقة بالعقيدة والأمور الغيبية التي يريد القرآن الكريم أن يثبّتها في الأذهان؛ كعقيدة التوحيد، والإيمان بالبعث، ويوم القيامة، والحساب، والثواب والعقاب في الحياة الآخرة، إنّ كثيرًا من آيات القرآن الكريم تكرِّر هذه المعاني لتثبيتها في الأذهان، ومن أمثلة تكرار عقيدة التوحيد ما جاء في سورة النمل -وهي سورة مكية- من تكرار عبارة ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ خمس مرات حتى تثبت هذه العقيدة في الأذهان.

﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[النمل: 60- 64].

وتكرّرت الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله الواحد الأحد أربع مرات في سورة هود وهي مكية، فقد ذكر القرآن الكريم في هذه السورة ما قاله بعض الأنبياء السابقين لأقوامهم حينما كانوا يدعونهم إلى عقيدة التوحيد، فذكر ما قاله نوح -عليه السلام- لقومه:

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ...﴾[هود: 25].

ثم ذكر القرآن الكريم ما قاله كلٌّ مِن هود وصالح وشعيب -عليهم السلام- إلى أقوامهم بصيغة واحدة تكرّرت ثلاث مرات في السورة:

﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ...﴾ [هود: 50].

﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ...﴾ [هود: 61].

﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ...﴾[هود: 84].

كما تكررت عبارة: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ مرتين في سورة المؤمنون وهي مكية، وذلك في الآيتين رقم 23 و32.

ولقد جاء في القرآن الكريم أيضًا تكرار لقصص الأنبياء لكي تثبت في الأذهان حقيقة أنّ جميع الأديان من عند الله[10]، فهو -سبحانه وتعالى- الذي أرسل جميع أنبيائه إلى الناس في فترات التاريخ المختلفة لهدايتهم ودعوتهم إلى التوحيد وعدم الشرك بالله؛ ولكي يبين أيضًا لكفار قريش المصير الذي لقيه مِن قبلُ مَن كذّبوا الأنبياء، ويحذِّرهم من المصير الذي ينتظرهم إذا ما هم كذّبوا النبيَّ -صلوات الله وسلامه عليه-، فنجد مثلًا في سورة القمر وهي مكية تكرارًا لذِكْر العذاب الذي سيلقاه الكافرون، ولإنذار الله تعالى لهم بهذا العذاب، وذلك يهدف إلى إثارة انتباه كفار قريش وتذكيرهم بالمصير الذي لاقاه الذين كذّبوا أنبياءه من قبلُ، وتحذيرهم من لقاء نفس هذا المصير إذا ما استمروا في تكذيبهم للنبي -صلوات الله وسلامه عليه-[11]، فقد تكررت في هذه السورة الآية الآتية أربع مرات: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾[القمر: 16، 18، 21، 30].

كما تكررت الآية التالية أربع مرات في نفس السورة: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾[القمر: 17، 22، 32، 40].

ويلاحظ أيضًا في سورة المرسلات وهي مكية أيضًا أن عبارة: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ قد تكرّرت عشر مرات، وكانت هذه السورة تَذكُر كثيرًا من النِّعَم التي أنعم الله تعالى بها على الناس، وكثيرًا من النِّقَم التي أنزلها الله تعالى بهم؛ فكانت هذه العبارة تأتي بعد كلّ نعمة يذكِّرهم الله بها، وبعد كلّ نقمة يخوّفهم منها، وذلك ليثير انتباههم إلى هذه النعم والنقم ليكون رادعًا لهم عن التمادي في التكذيب، وزاجرًا لهم عن الاستمرار في الكفر، هذا فضلًا عمّا في تكرار جملة واحدة عدّة مرات خلال الكلام من تأثير خطابي، وهو أمر مألوف للعرب معهود في خُطبهم وأشعارهم[12].

وفي القرآن الكريم أيضًا آيات تتكلّم عن البعثِ، ويومِ القيامة، ويوم الحساب، ونعيمِ الجنة وعذاب جهنم، وخَلْقِ آدم وحواء، وعداءِ إبليس لهما، ويهدف القرآن من تكراره لذِكْر هذه الأمور الغيبية إلى استقرار الإيمان بها في النفوس، وإلى تثبيت ما يبثه أثناء سرده لها من عقائد وعِبر وعظات.

وليس تكرار القصص في القرآن الكريم تكرارًا تامًّا، وإنما كان القرآن الكريم يذكر من القصة الأحداث التي تتفق مع سياق المعاني الواردة في السورة، وإذا كرّر القرآن حلقة من القصة فإنه عادةً ما يورد فيها شيئًا جديدًا لم يذكره من قبل، ويُحدِث في ألفاظها بعض التعديل، وتقديم وتأخير مما تتطلّبه العِبرة المقصودة مِن ذِكر القصة؛ فالقرآن الكريم لا يسرد قصص الأنبياء باعتبارها تاريخًا يُراعى فيه الترتيب الزمني للوقائع، وإنما يذكرها لما في أحداثها من عِبر وعظات؛ ولذلك فهو يذكر من وقائع القصة ما يناسب العِبرة التي يريد أن يبثّها في الناس[13].

ولا شك أيضًا في أنّ عرض بعض الأحداث أو الأفكار في صور أو صيغ مختلفة إنما يؤدي إلى إثارة الانتباه، ويمنع من حدوث الملل الذي يمكن أن ينتاب الإنسان إذا ما عرضت عليه فكرة معيّنة عدّة مرات في صورة واحدة لا تتغير، وقد بيّنت دراسات علماء النفس المحدَثين والمتخصّصين في الدعاية والإعلان أهمية تغيير الصيغة التي يعبّر بها عن فكرة معينة لتجنيب الملل، والإثارة للانتباه وهو أمر يراعيه الآن القائمون بالإعلان التجاري.

الانتباه:

إنّ الانتباه عامل مهم في التعلم، فإذا لم ينتبه الإنسان مثلًا إلى محاضرةٍ ما، فإنه لا يستطيع أن يدرك ما تضمنته من معلومات، وهو بالتالي لا يستطيع أن يتعلمه وأن يتذكرها فيما بعد؛ ولذلك فإنّ المعلمين والمربِّين يحرصون دائمًا على إثارة انتباه تلاميذهم حتى يمكنهم استيعاب الدروس وفهمها وتعلّمها، ولقد كان استخدام القرآن الكريم للقصص -كما أشرنا إلى ذلك سابقًا- عاملًا مهمًّا في إثارة الانتباه إلى ما تتضمّنه من مواعظ وعِبر ودعوة إلى التوحيد، وقد نوّه القرآن الكريم بأهمية الانتباه في استيعاب المعلومات، وذلك في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].

وقد جاءت هذه الآية بعد آية أخرى ذكر الله تعالى فيها أنه أهلك قبل قريش أممًا كثيرة من الكفار كانوا أشدّ منهم بطشًا، ويشير الله تعالى في هذه الآية إلى أنّ في ذلك عظةً لكلّ مَن له عقل، أو استمع إلى هذا الكلام وفهمه وهو حاضر الذهن مركّز الانتباه.

ويشير القرآن الكريم أيضًا إلى أهمية الانتباه حينما ذكر في سورة المزمِّل أن القيام بعد النوم يجعل الإنسان أكثر انتباهًا لمعاني القرآن وأكثر تفهّمًا، ولعلّ ذلك راجع إلى راحة الذهن بعد النوم من جهة، وإلى الهدوء الذي يسببه الليل وعدم الانشغال بالأمور المعيشية التي تشغل بال الإنسان عادةً أثناء النهار من جهة أخرى. يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾ [المزمّل: 6][14].

وأشار القرآن الكريم أيضًا إلى أهمية الانتباه في الفهم والتعلم بقوله: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الأعراف: 204].

فالاستماع إلى القرآن الكريم والإنصات إليه يتضمّن معنى الانتباه إلى ما يُقرأ من آياته لتدبّر معناها وفهمها، وتعلّم ما فيها من عقائد وتعاليم وأوامر ونَوَاهٍ وعِبَر وحِكم، ومن الواضح أنّ في ذلك إشارة إلى أهمية الانتباه في الفهم والتعلم.

ومما يساعد على تركيز الانتباه ويسهل عملية التعلم عرض المعاني بطريقة مبسطة وموضحة وذلك بتمثيلها بأمور واقعية محسوسة حتي يمكن إدراكها وفهمها؛ ولهذا فإن المتعلمين الآن كثيرًا ما يستعينون بالوسائل البصرية والسمعية والتجارب المعملية في شرح القوانين والنظريات العلمية مما يثير انتباه التلاميذ ويساعد على إدراكهم وفهمهم لها، والقصص والأمثال في القرآن الكريم إنما هي أساليب استخدمها القرآن الكريم لتجسيد المعاني العقائدية للدعوة الإسلامية وتقريبها إلى الأذهان، فالسامِع لقصص القرآن الكريم يتحوّل إلى مُشاهِد لوقائع وأحداث تتجسّد فيها هذه المعاني[15]، ويؤدِّي ذلك بلا شك إلى شدّ انتباهه إلى هذه المشاهد التي تتوالى في الخيال واحدة بعد أخرى، وتؤدّي الأمثال أيضًا في القرآن الكريم نفس هذا الدور، فهي تقوم بتجسيد المعاني بتشبيهها وتصويرها بأشياء محسوسة مما يجعلها أقرب إلى إدراك الناس وفهمهم[16].

ومن أمثلة ذلك المثال الوارد في سورة إبراهيم والذي يشبّه فيه اللهُ تعالى عدمَ انتفاع الكافرين بأعمالهم الخيّرة في الدنيا لعدم قيامها على أساس من الإيمان =برمادٍ يطير به الريح الشديد في يوم عاصف فلا يستطيع الإنسان الإمساك به.

﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ﴾[إبراهيم: 18].

ومن أمثلة ذلك أيضًا المثال الذي شبّه به اللهُ تعالى الكلمةَ الطيبة بالشجرة الطيبة التي تفيد الناس بثمرها الطيِّب، والضاربة بجذورها في عمق الأرض، والمرتفعة بساقها وأغصانها في عنان السماء، وتعطي ثمرها في كلّ وقت حدّده الله بمشيئته، وكذلك كلمة التوحيد ثابتة في قلب المؤمنين، ويصعد عمله الطيّب إلى الله تعالى، وينال بركته وثوابه في كلّ وقت، كما شبّه الله تعالى الكلمةَ الخبيثة بشجرة خبيثة اقتُلِعَت من الأرض فليس لها ثبات فيها، وكذلك كلمة الباطل داحضة لا ثبات لها[17].

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾[إبراهيم: 24- 26].

وتبدأ بعض سور القرآن الكريم بحروف مثل: (الم، الر، المص، كهيعص، طسم)، وقد ذكر المفسِّرون تفسيرات مختلفة للمراد من هذه الحروف، وما قيل في تفسيرها: أن المقصود منها إثارة انتباه المشركين للاستماع إلى القرآن الكريم لما لها من جرس خاصّ، فقد كان المشركون قد تواصوا بعدم الاستماع إلى القرآن الكريم، وكان الابتداء بهذه الحروف يفتحُ لاستماعها أسماعَ المشركين، حتى إذا ما استمعوا تُلِيَ عليهم القرآنُ الكريم المؤلَّفُ من هذه الحروف[18].

ومما يثير الانتباه أيضًا استخدامُ القَسَم فاتحةً لبعض السور المكية، وقد ورد القسَم في القرآن الكريم في بداية خمس عشرة سورة[19]، ومن أمثلة ذلك: (والصَّافَّات، والذَّارِيَات، والطُّور، والنّجْم، والسَّمَاء ذَات الْبُرُوج، والسَّمَاء والطَّارِق، وَالفَجْر، والعَصْر). وكان ذلك مدعاة لجذب الانتباه إلى الاستماع إلى القرآن الكريم، فإنّ البدء به هو جذب لانتباه السامع لوقوع القسم على سمعه في شيء من الرهبة، فإذا حدث ذلك صحبه تهيؤ نفسي لتلقّي ما يُقال، وخصوصًا وإن ما يُقال مبني على قسم، والقسم شيء يهول، وفي هذه الحال يكون الإنسان أشد تأثرًا بما يسمع مما لو فاتحته بما تريد عن طريق الجدل والنقاش[20].

وفضلًا عن ذلك فإن أسلوب القرآن الكريم الذي يتميّز بالإعجاز البلاغي، والإيقاع الموسيقي إنما يهز الوجدان، ويشد إليه الانتباه، ويمتاز أسلوب القرآن الكريم أيضًا بتناسق الجرس اللفظي أروع التناسق مع المعاني التي تؤدّيها الألفاظ، مما يعطي للألفاظ بُعدًا آخر غير البعد الدلالي المعتاد، وإذا بالإنسان يجد المعنى ضمن سماعه لصوت اللفظ وأدائه[21]. ولا شك أن ذلك يشدّ الانتباه، ويخلق من الإنسان إحساسًا بالموقف الذي يصوّره القرآن الكريم، مما يؤدِّي إلى دقّة الاستيعاب والفهم.

المشاركة الفعالة:

إنّ تعلّم المهارات الحركية يقتضي أن يقوم المتعلم بأداء هذه المهارات بالفعل، وأن يتدرب عليها حتى يتقنها، وليست الممارسة العملية مهمة فقط في تعلم المهارات الحركية، بل إنها مهمة أيضًا في تعلّم العلوم النظرية، وفي تعلّم السلوك الخلقي والفضائل والقيم وآداب السلوك الاجتماعي، فإنّ أداء الفرد بنفسه لما يريد أن يتعلّم يساعد على سرعة التعلم وإتقانه، وقد تبيَّن من نتائج إحدى الدراسات التجريبية أن الأفراد الذين كانوا يقرؤون بأنفسهم بعض الحروف والكلمات المقابلة لها كانوا أسرع في حفظها من الأفراد الذين كانوا يستمعون فقط إلى المجرب يقرأ عليهم هذه الحروف والكلمات، كما كانوا يرونها في نفس الوقت تُعرَض أمامهم على الشاشة بواسطة فيلم سينمائي[22]. وقد بيّنَت نتائج هذه التجربة أهمية المشاركة الفعالة في عملية التعلم.

ونحن نجد في القرآن الكريم تطبيقًا لمبدأ المشاركة الفعالة، يتّضح ذلك من الأسلوب الذي اتبعه القرآن الكريم في تعليم المسلمين الخصال النفسية الحميدة، والأخلاق والعادات السلوكية الفاضلة عن طريق تدريبهم العملي عليها لِما كلّفهم القيام به من عبادات مختلفة؛ فالوضوء وأداء الصلاة في مواعيد معينة كلّ يوم يعلّم المسلمين النظافة والطاعة والنظام والصبر والمثابرة، والصوم يعلّمهم أيضًا الطاعة والصبر على تحمّل المشاق، ومقاومة شهوات النفس.

وقد عُني القرآن الكريم عناية فائقة -إلى جانب تعليم المسلمين الإيمان والعقائد الدينية- بتوجيههم إلى العمل الصالح، فالإيمان الصادق يجب أن يُعبَّر عنه في سلوك المؤمن وعمله، وذلك بالتحلي بالأخلاق الفاضلة وحب الخير للناس، وبالسبق إلى أداء ما يُرضِي الله تعالى ورسوله -عليه صلاة الله وسلامه-، فقد ورد الإيمان في كثير من آيات القرآن الكريم مصحوبًا بالعمل الصالح. ومن أمثلة ذلك:

﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ...﴾ [البقرة: 25].

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[البقرة: 82].

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 277].

﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾[آل عمران: 57].

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 9].

﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ [الكهف: 88].

﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82].

توزيع التعلّم:

بيّنت الدراسات التجريبية التي قام بها علماء النفس المحدَثون أن توزيع التعلّم أو التدريب على فترات متباعدة يتخللها فترات راحة يساعد على سرعة التعلم وتثبيته في الذاكرة، وأن التعلّم الذي يحدث باستخدام طريقة التوزيع أفضل كثيرًا من التعلّم الذي يحدث باستخدام طريقة التركيز، وهو التعلم الذي يتمّ في فترة زمنية متصلة دون أن تتخلّلها فترات راحة، وقد طبق هذا المبدأ في القرآن الكريم؛ إِذْ إنه نزل على فترات متباعدة في مدة طويلة من الزمن قدرها ثلاث وعشرون سنة، وذلك حتى يستطيع الناس أن يتعلّموه على مهل، وأن يستوعبوا معانيه، وقد ساعد ذلك على إتقان تعلّمه وفهمه وحفظه، ولو كان القرآن الكريم نزل كله دفعة واحدة لكان من الصعب تعلمه، وفهم معانيه وأغراضه.

﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا﴾[الإسراء: 106][23].

التدرج في تعديل السلوك:

إنّ التخلّص من بعض عاداتنا السيئة القوية التي مارسناها مدة طويلة من الزمن بحيث أصبحت ثابتة ومستقرة في سلوكنا = ليس بالأمر السهل بالنسبة لكثير من الناس؛ إِذْ إن ذلك يحتاج إلى إرادة قوية، وجهد كبير، وتدريب طويل، وهذا أمر قد لا يطيقه كثير من الناس؛ ولذلك فإن أفضل طريقة يمكن اتباعها للتخلص من عاداتنا السيئة المستحكمة هي أن تعمل على التخلّص منها تدريجيًّا.

إنّ أحسن طريقة للتخلّص من انفعالٍ ما كانفعال الخوف مثلًا، هي أن تقوم بالتدريج بإحلال انفعالٍ معارِض لانفعال الخوف، كانفعال السرور أو الحب مثلًا محلّ الخوف حتى تصل في النهاية إلى التخلص النهائي من الخوف. وقد بيّنت بعض التجارب التي أجراها بعض علماء النفس المحدَثين أنه أمكن بهذه الطريقة تخليص الطفل من خوفه من أحد الحيوانات وتعليمه حب الحيوان بدلًا من الخوف منه[24]. وبهذه الطريقة أيضًا يمكن التخلص من عاداتنا السيئة بأن نحلّ محلها عادات معارضة، وهو أسلوب يتبعه بعض علماء النفس المحدثين في العلاج النفسي.

ولقد كان للعرب قبل الإسلام بعض العادات السيئة المستقرّة في سلوكهم، ولم يكن من السهل في المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية أن يُطْلَب من المسلمين التخلِّي عن بعض عاداتهم السيئة القوية التي ألِفوها مدّة طويلة من الزمن؛ ولذلك فقد اتبع الإسلام في علاج هذه العادات السيئة أسلوبين؛ الأسلوب الأول: وهو تأجيل علاج هذه العادات حتى يستقر الإيمان في قلوب المسلمين بحيث يمكن الاستعانة بقوّةِ الإيمان كدافع قوي يسهّل عملية التخلص من العادات السيئة المستحكمة وتعلّم عادات جديدة بدلًا منها؛ ولهذا السبب كانت معظم آيات القرآن الكريم التي نزلت بمكة في المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية تتعلق أساسًا بالدعوة إلى عقيدة التوحيد، وكان الرسول -عليه صلوات الله وسلامه- يتعهّد مَن يؤمن بدعوته بالتربية الروحية لترسيخ الإيمان والتقوى في نفوسهم، ولا شك أن ذلك كان مرحلة ضرورية ومهمّة في الإعداد النفسي للمسلمين بحيث أصبحوا في حالة تهيؤ تام لتغيير سلوكهم وعاداتهم وأفكارهم ونظام حياتهم تغييرًا كاملًا، كما جعلهم أيضًا في حالة استعداد لقبول الآيات التي نزلت فيما بعد للنهي عن عادات كانت شائعة بينهم، ما كان المسلمون في أول عهدهم بالإسلام مستعدين لتقبّلها بسهولة؛ كالنهي عن الخمر والربا، ولكن بعد أن رسخ الإيمان في قلوب المسلمين كان الإيمان دافعًا قويًّا إلى الطاعة التامّة لله وللرسول، وإلى تقبّلهم عن رِضًا كلَّ ما يؤمرون به حتى ولو كان ذلك يتطلّب منهم الامتناع عن عادات قديمة كانت قد استقرّت في سلوكهم من قبل لسنوات طويلة، فحينما نزلت آيات تحريم الخمر امتنع المسلمون جميعًا عن شربه، وقاموا بسكب كلّ ما لديهم منه في شوارع المدينة.

أمّا الأسلوب الثاني الذي استخدمه القرآن الكريم في علاج المسلمين من عاداتهم السيئة المستقرة القوية: فقد كان عبارة عن التهيئة المتدرجة لنفوس المسلمين للتخلّص من هذه العادات، وذلك عن طريق التكوين التدريجي لاستجابة معارضة للاستجابة المطلوب التخلّص منها، وقد اتبع القرآن الكريم هذه الطريقة في علاج مشكلة شربِ الخمر، فقد عمدَ القرآن الكريم في أول الأمر إلى تنفير المسلمين من شرب الخمر وتكريههم لها، دون أن يقوم بتحريمها تحريمًا تامًّا، ثم تدرّج إلى التحريم التام، فكانت أول آية نزلت في الخمر تشير إلى أنّ مضارّها أكبر من نفعها، وفي هذا تنفير للمسلمين منها، وحثّ على الامتناع عن شربها، وقد قام بعض الصحابة فعلًا بترك شرب الخمر بعد نزول الآية ولكنهم لم يتركوها كلّهم، قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219].

ثم انتقل القرآن الكريم بعد ذلك إلى درجة أشد حزمًا في تنفير المسلمين من شرب الخمر وفي حثّهم على الامتناع عنها، حينما كان بعض الصحابة يذهبون إلى الصلاة وهم سكارى فيُخطِئون في قراءة القرآن، فحرّم عليهم القرآن الكريم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى. وفي ذلك في الواقع تحريم لشرب الخمر في معظم أوقات اليوم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43].

إنّ الامتناع عن شرب الخمر خمسة أوقات في اليوم وهي أوقات تشمل معظم ساعات اليوم تقريبًا =إنما كان بمثابة تدريب المسلمين للإقلاع عن شرب الخمر، وقد جعلهم هذا التدريب متهيئين نفسيًّا للانتقال إلى المرحلة التالية وهي الامتناع نهائيًّا عن تعاطي الخمر، وذلك حينما نزلت الآية التي حرّمت الخمر تحريمًا تامًّا.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾ [المائدة: 90- 91].

إنّ هذا الأسلوب في التدرج في تحريم الخمر قام بإضعاف حبّ المسلمين لها تدريجيًّا، وأحلّ محلّ الحب استجابة معارضة له هي استجابة النفور والكره، وقد تمّت هذه العملية تدريجيًّا حتى وصلَت إلى النهاية المطلوبة بنجاح تامّ؛ فما نزلت آية التحريم حتى قام جميع مسلمي المدينة بالتخلّص مما لديهم من خمر بسكبه في شوارع المدينة، ولو كانت نزلت آية تحريم الخمر في مكة أثناء المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية لَمَا كنّا نتوقع أن يكون لها في نفوس المسلمين نفس التأثير الذي أحدثته حينما نزلت في المدينة في وقت كان فيه الإيمان قد استقر قويًّا في قلوبهم، وكان الامتناع عن شرب الخمر في بعض أوقات اليوم قد هيأهم للإقلاع النهائي عن شربها بمجرد نزول آية التحريم، ويُروى عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: «إنما نزل أوّل ما نزل منه -أي القرآن- سورة المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثَابَ الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أوّل شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا»[25].

وقد اتّبع القرآن الكريم هذ الأسلوب ذاته في علاج الربا الذي كان متفشيًا بين العرب في الجاهلية، فقام بتحريمه تدريجيًّا، ويمكن أن نشير إلى أربع مراحل مَرّ بها تحريم الربا[26]:

- في المرحلة الأولى أظهر الله تعالى عدم رضاه عن الربا، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ﴾[الروم: 29].

- وفي المرحلة الثانية نزلت آية كان فيها وعد لليهود بسبب ممارستهم للربا، وفي ذلك تلويح بالتحريم، وإن لم يكن نصًّا صريحًا بالتحريم.

﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: 160- 161].

- وفي المرحلة الثالثة حرّم الله تعالى الربا الفاحش الذي كان يمارسه العرب في الجاهلية، وذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[آل عمران: 130].

- وفي المرحلة الرابعة حرّم الله تعالى الربا تحريمًا قاطعًا، بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾[البقرة: 275- 276].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 278- 279].

وكانت الآية الأولى التي نزلت عن الربا وهي التي تشير إلى عدم رضا الله -سبحانه وتعالى- عنه مكية، أمّا الآيات الأخرى التي نزلت بعد ذلك وخاصة آيات التحريم القاطع للربا فهي مدنية، ومن ذلك يتبيّن أيضًا أن التحريم القاطع للربا قد نزل أيضًا بعد أن استقر الإيمان في قلوب المسلمين.

والأسلوب الذي اتبعه القرآن الكريم في علاج تعاطي الخمر والربا هو التكوين التدريجي لاستجابة النفور والكراهية لهما حتى تصل إلى درجة من القوة يمكنها أن تتغلب على استجابة الميل والحب لهما، وبذلك استطاع القرآن الكريم أن يعالج بنجاح هاتين العادتين القويتين المستقرتين في سلوك العرب، وأن يقضي عليهما بأسلوب مخطط في غاية الدقة والحكمة.

وقد توصل بعض المعالجين النفسيين حديثًا إلى أسلوب في العلاج النفسي مستمَدّ من أبحاث سكنر (B.F. SKINNER) وهو أسلوب يشبه كثيرًا الأسلوب الذي استخدمه القرآن الكريم في علاج تعاطي الخمر والربا، ويُعرف هذا الأسلوب في العلاج النفسي (بالتشكيل) فإذا أردنا مثلًا أن نعلّم طفلًا استجابةً صعبة فإنه يمكن أن نقوم بتكوين هذه الاستجابة لديه تدريجيًّا؛ فمثلًا: إن الطفل الذي لم يتعلم من قبل النظافة والذهاب إلى الحمّام في الوقت المناسب يكون قد تجاوز السن الذي يتعلم فيه معظم الأطفال ذلك، فإنه يمكن أن تعلّمه ذلك بأن تبدأ بإثابته بإعطائه قطعة من الحلوى مثلًا، لمجرّد أن يقوم باستجابة الذهاب إلى الحمّام، فإذا تعلّم الطفل ذلك ينتقل العلاج إلى الخطوة التالية وهي أن يطلب منه أن يذهب إلى الحمّام عند احتمال ظهور حاجته إلى الإخراج بطريقة لا إرادية، ثم يُثاب الطفل عندما يتم الإخراج إثابة أكبر بإعطائه قطعة أكبر من الحلوى، وبثناء كبير من والديه، ثم أخيرًا يثاب الطفل ثوابًا أكبر إذا أخبر والديه بأنه يحتاج إلى الذهاب إلى الحمّام وقبل أن يتم الإخراج بطريقة لا إرادية[27]. إنّ هذا الأسلوب في العلاج يعتمد أساسًا على التكوين التدريجي للاستجابة المطلوب تعلّمها عن طريق التعلّم التدريجي لأنواع من الاستجابات المتوسطة والتي تتجه تدريجيًّا نحو تكوين الاستجابة المطلوبة. وهذا الأسلوب في العلاج يماثل الأسلوب الذي اتّبعه القرآن الكريم في علاج تعاطي الخمر والربا.

واتّبع جوزيف وولب (Joseph Wolpe) أيضًا طريقة التدريج في علاج الخوف المرتبط بأشياء معيّنة، وذلك عن طريق تكوين استجابة معارضة للخوف كالاسترخاء لسلسلة متدرجة من الأشياء المشابهة للشيء الأصلي المثير للخوف، ولكنها ترتّب في نظام متدرج مِن أقلّها إثارة للخوف إلى أكثرها إثارة له، وبحيث يكون الشيء الأصلي المثير للخوف والمطلوب علاج الفرد من الخوف منه في أعلى هذه السلسلة، ثم يبدأ العلاج بتعليم المريض الاسترخاء أثناء تخيل الشيء الأدنى في هذه السلسلة حتى يزول الخوف المرتبط به، ثم ينتقل العلاج إلى تعليم المريض الاسترخاء أثناء تخيّل الشيء الثاني في السلسلة والذي يثير قدرًا أكبر من الخوف، ويستمر العلاج حتى يزول الخوف المرتبط به، وهكذا يستمر العلاج بالتخلص التدريجي من الخوف المرتبط بهذه السلسلة المندرجة من الأشياء المثيرة للخوف حتى ينتهي العلاج إلى التخلّص من الخوف المرتبط بالشيء الذي يوجد في قمة هذه السلسلة وهو الذي بدأ العلاج أساسًا للتخلّص منه[28].

إنّ أسلوب التدريج في تعليم الاستجابات الصعبة أو في العلاج النفسي الذي يرمي إلى التخلّص من بعض العادات أو الانفعالات غير المرغوب فيها، والذي توصّل إليه علماء النفس المحدثون أخيرًا =قد سبق أن استخدمه القرآن الكريم منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان في علاج تعاطي الخمر والربا.

 

 

[1] نُشرت هذه المقالة بمجلة (عالم الفكر)، العدد 4، بتاريخ 1 يناير 1982م. (موقع تفسير).

[2] القرآن وعلم النفس، محمد عثمان نجاتي، بيروت، دار الشروق، ومقالنا هذا من مبادئ التعلم في القرآن الكريم مقتبس من هذا الكتاب المشار إليه.

[3] منهج تربوي فريد في القرآن، محمد سعيد رمضان البوطي، مجلة الوعي الإسلامي (الكويت)، السنة السابعة، العدد 81، أكتوبر، ص74، 75.

[4] آدم عليه السلام، البهي الخولي، الطبعة الثالثة، القاهرة، مكتبة وهبة 1974، ص185.

[5] التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، الطبعة الثالثة، القاهرة، دار المعارف 1975، ص148.

[6] التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، ص148- 149.

[7] التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، ص149.

[8] منهج القرآن في التربية، محمد شديد، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1979، ص277.

[9] من الأصول التربوية في الإسلام، عبد الفتاح جلال، من مطبوعات المركز الدولي للتعلم الوظيفي للكبار في العالم العربي، سرس الليان، مصر 1977، ص119.

[10] التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، ص109.

[11] انظر أيضًا في هذا الموضوع: القرآن وعلم النفس، عبد الوهاب حمودة، القاهرة، دار القلم 1962، ص95، 96.

[12] القرآن وعلم النفس، عبد الوهاب حمودة، ص96، 97.

[13] القرآن وعلم النفس، عبد الوهاب حمودة، ص103- 105.

[14] قال ابن كثير في تفسير الآية: والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة، ولهذا قال تعالى: ﴿هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾، أي: أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش. تفسير ابن كثير، (4/ 435).

[15] التوازن في الإسلام، محمد عليّ التسخيري، بيروت، الدار الإسلامية 1979، ص341- 342. التصوير الفني في القرآن، سيد قطب، ص67- 73.

[16] التوازن في الإسلام، محمد عليّ التسخيري، ص142- 143.

[17] المنتخب في تفسير القرآن الكريم، الطبعة السادسة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف بجمهورية مصر العربية 1979، ص368.

[18] تفسير ابن كثير (1/ 37). تفسير المنار (1/ 122).

[19] القرآن وعلم النفس، عبد الوهاب حمودة، ص16- 17.

[20] القرآن وعلم النفس، عبد الوهاب حمودة، ص16- 17.

[21] التوازن في الإسلام، محمد عليّ التسخيري، ص143- 144.

[22] علم النفس في حياتنا اليومية، محمد عثمان نجاتي، الطبعة الثامنة، الكويت، دار القلم 1980، ص190- 192.

[23] جاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم في تفسير هذه الآية: «وقد فرَّقنا هذا القرآن ونزَّلناه منجمًا على مدة طويلة لتقرأه على الناس على مهلٍ ليفهموه».

[24] علم النفس في حياتنا اليومية، محمد عثمان نجاتي، ص637- 638.

[25] البخاري: باب تأليف القرآن.

[26] الإسلام ومشكلات العصر، مصطفى الرافعي، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1972، ص300- 301.

[27] علم النفس الإكلينيكي، جوليان روتر، ترجمة: عطية محمود هنا، ومراجعة: محمد عثمان نجاتي، الكويت، دار القلم، 1977، ص185- 186.

[28] علم نفس الشواذ، شيلدون كاشدان، ترجمة: أحمد عبد العزيز سلامة، ومراجعة: محمد عثمان نجاتي، الكويت، دار القلم 1977، ص233- 235. علم الأمراض النفسية والعقلية، ريتشارد م. سوين، ترجمة: أحمد عبد العزيز سلامة، القاهرة، دار النهضة العربية 1979، ص846- 854.

الكاتب

الدكتور محمد عثمان نجاتي

أستاذ علم النفس بكلية الآداب جامعة القاهرة، وجامعة الكويت، وجامعة محمد بن عبد العزيز آل سعود بالرياض، وله عدد من المؤلفات والأعمال العلمية المنشورة، وتوفي عام 2000م.

((المعلومات والآراء المقدَّمة هي للكتّاب، ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع أو أسرة مركز تفسير))